كتب شربل الصياح في موقع JNews Lebanon
الجزء الثّاني
لقراءة الجزء الأول انقر هنا
ما بعد ٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٣ : ماذا يعني إعادة النّظر بخريطة الشّرق الأوسط ؟
قد أظهرت الديناميكيّات الجيوسياسيّة الأخيرة ، حدود هذه الانفتاحات الاقتصاديّة .
فالنّزاع الذي اندلع في ٧ تشرين ٢٠٢٣ بين إسرائيل وحماس و السّلوك العسكري لجيش الدّفاع الإسرائيلي في غزّة و رفح الذّي أشارت إليه محكمة العدل الدّولية حيثُ قَبِلت دعوى جنوب أفريقيا بعنوان ” الإبادة الجماعيّة “، أحدث هزّة في العالم العربي ، ممّا أدّى إلى إعادة تقييم مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل . و قد أثار سلوك إدارة نتنياهو العسكري و حتّى السّياسي انتقادات دولية ، وأدّى إلى إعادة نظر بعض دول الخليج في مسار علاقاتها مع إسرائيل .
الدّعم الأولي الذي قدّمته الإمارات العربية المتّحدة والبحرين لإسرائيل تقلّص في ضوء الدّعوات المتزايدة لحلّ مستدام للصراع الإسرائيلي الفلسطيني .
وبدأت دول الخليج ، بشكل خاصّ ، في إعادة النّظر في انفتاحها الجيوسياسي على إسرائيل ، مشروطةً هذا الإنفتاح بشكل أكثر وضوحاً بقيام دولة فلسطينيّة . في المقابل ، كثفت قطر ، التي تدعم تقليدياً القضية الفلسطينية ، و تستقبل قيادات حركة المقاومة الإسلاميّة في الدّوحة ، من انتقاداتها ، بينما شهدت المحادثات حول تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية تباطؤاً ملحوظاً .
ما هو المعيار الذّي يحدّد مستقبل الدّول ؟
في مفاهيم الدّولة الحديثة ، إن استقرار أي دولة في العالم الحالي يعتمِد على قدرتها على التكيّف مع العولمة الهوياتيّة .
كما ذكرت في إحدى مقالاتي السابقة بتاريخ ١٣ / ٦ / ٢٠٢٤ ، ” أوروبا نحو نموذج سياسي جديد”، لا يُمكن للنّزعة القوميّة أن تكون جواب كافٍ للتعدديّة
المتزايدة .
إذ إنّ الفشل في تبني هذا التّنوع و استيعابِه قد يؤدّي إلى توتّرات داخليّة ، بل و حتّى إلى عزلة دوليّة . بالنّسبة لإسرائيل ، يُعد هذا التّحدي أكثر حدّة . فهي ستحتاج حُكماً إن أرادت الإستمرار ، إلى تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على هويّتها الثوميّة اليهودية وبين دمج الديناميكيات الهوياتية العالمية الجديدة.
الحفاظ على الهويّة أم الانفتاح العالمي : هل تستطيع إسرائيل تحقيق التّوازن المستحيل ؟
ولا ننسى ، مثال الاتحاد السوفياتي . كانت هذه القوّة الاقتصاديّة والعسكريّة والتكنولوجيّة العُظمى ، التّي احتلّت المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتّحدة ، و قد انهارت جزئيًا في غضون أيّام ، و ذلك يعود إلي سبب من أسباب سقوطها العدّة : عدم قدرتها على التكيّف مع الديناميكيات التعدديّة العالميّة . و الدّليل أن إثر سقوطها ، ظهرت مجتمعات متعطّشة لتشكيل كيانات مستقلّة تعبّر عن وجودها و تاريخها و مستقبلها ، لكنّ البعض منها لم يستطِع . ( يوغوسلافيا ، مثلاً )
فَعلى الرّغم من أن النّاتج المحلّي الإجمالي للإتّحاد السّوفياتي بلغ ذروتِه في الثمانينيّات ، حيث قُدّر بأكثر من ٢ تريليون دولار ، وامتلك ميزانيّة عسكريّة ضخمة تجاوزت ٢٥٠ مليار دولار سنويًا ، إلّا أنّ هذه القوّة الهائلة لم تكن كافية لإنقاذه من انهياره الحتميّ .
لم يتمكّن الإتّحاد السّوفياتي من استيعاب التّنوع الثقافي والسياسي المتصاعد داخل حدوده الشّاسعة و خارجها ، وبدلاً من اعتماد سياسة أكثر انفتاحًا وتعدديّة ، تمسّك بنهج أحادي صارم وقمعي ، مما أدى في النهاية إلى تفكّكه الذاتي .
يبدو أن إسرائيل ، تواجه اليوم معضلة مشابهة، إذ إن تمسّكها بهويّة قوميّة صارمة قد يؤدي بها إلى نفس المصير . فإسرائيل ، على الرّغم من تفوقها الإقتصادي في مجالات التّكنولوجيا والدّفاع ، ورغم حجم ناتجها المحلّي الإجمالي الذي تجاوز ٥٠٠ مليار دولار في عام ٢٠٢٣ ، وميزانيّتها العسكريّة التي تُقدّر بأكثر من ٢٠ مليار دولار سنويًا ، إلا أنّها تخاطر بتكرار أخطاء الماضي بموضوع هويّة الدّولة .
في عالم اليوم ، أصبحت القدرة على استيعاب التّنوع وقبوله أمرًا حيويًا لبقاء الدول واستقرارها .
فالدّول التي تعتمد على القوميّة الحصريّة و تغلق أبوابها أمام التعددّية السّياسية ، مثل إيران وكوريا الشمالية ، تواجه مخاطر جمّة على مستقبلها . وإذا لم تتبنّى إسرائيل سياسة أكثر ومرونة بالتّعاطي قي هيكليّاتها الإداريّة ، فقد تجِد نفسها في مواجهة مصير مشابه ، حيث تصبح الهوية القوميّة الصارمة عبئًا قاتلًا بدلًا من أن تكون مصدر قوة ، كما كانت القرون
الماضية .
فالتّاريخ يعلّمنا أن مواجهة التّنوع ، بالانغلاق القومي لا يؤدّي سوى إلى طريقٍ مسدود ، والطّريق نحو البقاء والإزدهار يمرّ عبر التكيّف مع التعددّية العالميّة واستيعابها .
في الختام ،
أعود لدراسة نشرها أحد كبارنا ، الدّكتور شارل مالك ، في مجلّة ” الفصول ” سنة ١٩٨٠ تحت عنوان ” la question libanaise ” أو ” القضيّة اللّبنانيّة ”
حيث يقول فيها بصريح العبارة ” أنّ لبنان ، بإنفتاحه و تعدديّته يملك قدرة على التكيّف في أي وقت في المستقبل العالمي ، أمّا بالنّسبة للحركة الصهيونيّة ، فثبّتت وجودها بإطار حلف الأقليّات ، فنشأ منها كيان قومي .
كلّ من واجه أو يواجه الكيان الصهيوني بالأدبيّات عينِها ، يتغزّى منها و يغزّيها ، و كلّ من واجهها بسلوكٍ ليبراليّ مصدره الشّرعيّة الدّولية ، يساهم بعزلها عن السّاحة الدّوليّة و الشّرق أوسطيّة .
يبقى السؤال ، هل تملك الكيانات المجتمعيّة المبنيّة على أحادية الهوية القدرة الكافية بوعيٍ كاف على التكيّف مع العولمة الهوياتية ؟