كتب شربل صيّاح في موقع Jnews Lebanon
لنبدأ ببعض التاريخ :
القومية، كأيديولوجية سياسية وثقافية، تدعو إلى سيادة ووحدة مجموعة من الأشخاص يتشاركون خصائص مشتركة مثل اللغة والثقافة والتاريخ وأحياناً الدين. تاريخياً، ظهرت هذه الأيديولوجية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مدفوعة بأحداث بارزة مثل الثورة الفرنسية عام 1789، والتي نشرت فكرة أن الأمة، وليس الملك أو الإمبراطورية، يجب أن تكون مصدر الشرعية السياسية.
من وجهة نظر إجتماعيّة-سياسيّة
من الناحية الاجتماعية، يُنظر إلى القومية على أنها ظاهرة تشكل وتعزز الهوية الجماعية. من خلال خلق شعور بالانتماء والتضامن بين أفراد الأمة، فإنها توحدهم ضد التهديدات المتصورة. أكد عالم الاجتماع إرنست غيلنر في أعماله أن القومية لا تتطور بشكل طبيعي ولكنها نتاج الظروف الاجتماعية والاقتصادية، لا سيما التصنيع الذي يتطلب ثقافات متجانسة للعمل بشكل أمثل.
من الضروري التمييز بين شكلين رئيسيين من القومية: القومية المبنية على المواطنة والقومية العرقية. تستند القومية المبنية على المواطنة إلى الالتزام بالقيم والمؤسسات السياسية المشتركة، بينما تركز القومية العرقية على التراث واللغة والدين والتقاليد المشتركة. يمكن أن تؤدي الأخيرة في كثير من الأحيان إلى استبعاد أو تهميش المجموعات التي لا تتشارك هذه الخصائص المحددة.
العولمة والقوميّة: فوضى الهويّات
مع تكثيف التبادل الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي على المستوى العالمي، أثرت العولمة بشكل كبير على ديناميكيات القومية. من ناحية، خلقت فرصاً للنمو الاقتصادي والتنوع الثقافي. ومن ناحية أخرى، ولدت حالة من انعدام الأمن والتوتر من خلال زيادة المنافسة على الموارد وتفاقم أوجه عدم المساواة.
استجابة لهذه التحديات، غالباً ما تلجأ الحركات القومية إلى الانكفاء على القيم والهويات التي يُنظر إليها على أنها أصيلة ومهددة من قبل العولمة. على سبيل المثال، يمكن اعتبار صعود الجبهة الوطنية في فرنسا أو حزب الحرية (PVV) في هولندا ردة فعل على الفقدان المتصور للسيادة الوطنية في مواجهة المؤسسات فوق الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي.
شهدت الانتخابات الأوروبية الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً للأحزاب اليمينية، التي غالباً ما تكون قومية، والتي تستغل المخاوف المتعلقة بالهجرة وفقدان الهوية الوطنية والسيادة. استغلت أحزاب مثل التجمع الوطني في فرنسا والرابطة في إيطاليا والبديل من أجل ألمانيا (AFD) المشاعر المعادية لأوروبا والمعادية للهجرة لكسب أرضيّة انتخابيّة.
يُعد هذا الصعود لليمين جزئياً رد فعل على الآثار المتصورة للعولمة: نقل الوظائف إلى الخارج، وتدفق اللاجئين والمهاجرين، وتقليص الثقافات الوطنية. تعد هذه الأحزاب بـ”استعادة السيطرة” من خلال الدعوة إلى سياسات حمائية وتقييد الهجرة، مع تعزيز القيم والتقاليد الوطنية.
التحديّات الديموغرافية: جوهر المشكلة الأوروبية
تواجه أوروبا اليوم تحدياً كبيراً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالتركيبة الدّيمغرافية .
أدّى انخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان والتدفق الهائل للمهاجرين إلى تغيير البنية الديموغرافية للقارة.
على سبيل المثال، تشهد ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا شيخوخة سريعة لسكانها، مما يطرح تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بنظام التقاعد والرعاية الصحية.
وبالتوازي مع ذلك، كثفت وصول العديد من اللاجئين والمهاجرين من المناطق غير المستقرة في الشرق الأوسط وأفريقيا النقاش حول الهوية الوطنية والاندماج. غالباً ما يُنظر إلى هذه التحركات السكانية على أنها تهديد من قبل السكان المحليين، مما يغذي الخطاب القومي .
القومية : حلّ لمواجهة التحدي الديموغرافي؟
على الرغم من أن القومية قد تبدو وكأنها تقدم حلاً لمشاكل التماسك الاجتماعي والهوية، إلا أنها تنطوي على مخاطر كبيرة من الانقسام والصراع. تتفاقم الصراعات الديموغرافية، التي غالباً ما تتسم بتوترات عرقية أو دينية أو ثقافية داخل نفس الدّولة ، بسبب الجوانب الاستبعادية للقومية العرقية. بالتأكيد على التجانس الثقافي والعرقي، يمكن للقومية أن تفاقم الانقسامات وتغذي التمييز والعنف.
على سبيل المثال، أدت السياسات القومية للتطهير العرقي في البلقان في التسعينيات إلى صراعات دامية و مدمّرة .
وبالمثل، غالباً ما تؤجج القومية التوترات بين الأغلبية والأقليّة/ات ، كما نرى في العديد من البلدان اليوم حيث تسعى الحركات القومية إلى تقييد حقوق المهاجرين واللاجئين .
في مواجهة هذه التحديات، تبرز التعددية كبديل شامل و ثابت لأنّها تقوم على قبول الإختلافات الثقافية والعرقية والدينية داخل المجتمع.
تشجع التعددية أيضاً ، الحوار بين الجماعات داخل الدّولة والتفاهم المتبادل والتعاون بين مختلف هويّاتها . على عكس القومية، التي غالباً ما تسعى إلى التوحيد والاستبعاد، تثمن التعددية التنوع كثروة وأصل للمجتمع.
يصبح التطور نحو مجتمع تعددي أكثر أهمية في ضوء ظهور هويات جديدة. في أوروبا، على سبيل المثال، نشهد تنوعاً متزايداً في الهويات الثقافية والدينية. يتطلب هذا التعدد نهجاً سياسياً واجتماعياً يعترف بهذا التنوع ويقدره، بدلاً من السعي إلى قمعه.
من الدولة القومية إلى دولة المواطنة: اللامركزية
علاوة على ذلك، تظهر اللامركزية السياسية بشكل متزايد كاستجابة مناسبة للتحديات المعاصرة.
تسمح الأنظمة اللامركزية بإدارة أكثر محلية وتكيفاً للتنوع الإقليمي والثقافي.
من خلال توزيع السلطة على المستوى المحلي، يمكن لهذه الأنظمة الاستجابة بشكل أفضل للاحتياجات الخاصة للجماعات ، مع الحفاظ على الوحدة الوطنية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقدت الدولة القومية التقليدية، القائمة على التجانس العرقي والثقافي، هيمنتها في مواجهة ديناميكيات العولمة والتنوع.
بينما تبدو القومية، كأداة للتماسك الاجتماعي، جذابة، إلا أنها تثبت أنها غير مناسبة للواقع الديموغرافي والثقافي المعاصر.
تقدم التعددية، من خلال احترام الاختلافات، مساراً أكثر وعداً لإدارة التحديات الحالية والمستقبلية. من المتوقع أن تلعب أنظمة اللامركزية السياسية، من خلال توفير حوكمة أكثر تكيّفاً وشمولاً، دوراً رئيسياً في المستقبل السياسي العالمي.
في مواجهة صدام الحضارات الوشيك أو “صراع الحضارات” ، تظهر التعددية كالطريق الوحيد القابل للتطبيق لضمان تعايش سلمي ومتناغم ومستقرّ.
هذا الصراع الحضاري لن يستغرق وقتاً طويلاً ليفرض نفسه… في هذا السياق، من الضروري أن ينخرط اليمين السياسي بهويّة أكثر ليبراليّة ويعتبر التعددية معياراً أساسياً، معترفاً بذلك بقيمة التنوع في صياغة السياسات والقرارات الحكومية العالمية.
في ختام هذه المقالة، أدعو القارئ للتأمل في هذه المقولة :
“في سرد التاريخ ، غالباً ما كانت القومية هي المنقذ لاستمرارية الشّعوب ، لكن الدروس الحقيقية للتعايش والتقدم و الإستقرار لهذه الأخيرة توجد في فصول التعددية…”
تعليق واحد
تنبيه: التحديات الهوياتيّة في عصر العولمة : هل تواجه إسرائيل مفترق طرق وجودي في ظل التغيرات الثقافية العالمية؟ - JNews Lebanon