كتب شربل الصياح في موقع JNews Lebanon
الجزء الأوّل
تُعتبر العولمة عادةً عملية توحيديّة ، حيث تَقترب الثّقافات والإقتصادات وأنماط الحياة من نموذج عالمي موحدّ .
ومع ذلك ، برزت ديناميكيّة جديدة تُعرف بـِ ” العولمة الهوياتيّة “، و هِي لا تسعى إلى طمسِ الفوارِق ، بل على العكس ، تعمَل على تضخيمِها وتأكيدِها في إطار عالمي . تُروِّج العولمة الهوياتيّة للإعتِراف بالخصوصيّات الثقافيّة والدّينية والإثنيّة على الصعيد العالمي ، ممّا يخلق مشهداً تبرز فيه الهويّات المحليّة والوطنيّة بقوة على الساحة الدوليّة.
في هذا السّياق ، يُعدّ وجود كيان إسرائيل حالة استثنائية.
فمنذ تأسيسه عام ١٩٤٨ ، بُنيت إسرائيل على هوية أحاديّة وطنية قوية ، تتمحور حول الثقافة اليهودية و الفِكر الصهيوني .
وقد جاءَت نشأتها إستجابةً لحاجة تاريخيّة وسياسيّة متعلّقة بحماية وجمع الشعب اليهودي ، الذي تعرّض للإضطهاد والشتات عبر العصور .
لِذا ، أقامت إسرائيل نموذجاً مجتمعياً يوحّد بين مكوّناتها على أساس هوية قوميّة أحاديّة وغير متعدّدة الأطياف ، حيثُ تهيمِن الطائفة اليهوديّة على الهيكليّة الإداريّة و المؤسساتيّة بشكل آحادي . هذا لا يمنع وجود مقاعد مخصّصة للأقليّات إن كان في الكنيست أو في البرلمان الإيراني مثلاً ، لكنّها صوريّة و لا حقّ ” فيتو ” عمليّ و فعليّ لها .
بينما تبقى المجموعات الأخرى ، كالعرب الإسرائيليين و الدروز، خارج هذا السّرد القومي المركزي .
تحدّيات العولَمة الهوياتيّة : إسرائيل والنموذج الأحادي
إنّ صعود العولمة الهوياتيّة يطرح تحدّيات كبيرة لهذا النّموذج .
كما قلنا سابقاً ، يعترِف هذا النّظام العالمي الجديد بالتّنوع ويدعو إلى دمج الهويّات المتعدّدة داخِل الأمم ، بل وتشجيع الاحتفاء بها . ويشكّل هذا معضلة معقّدة بالنّسبة لإسرائيل ، التي اعتمدَت تاريخياً على هويّة قوميّة موحّدة لتوطيد التّماسك الداخلي وضمان البقاء في بيئة إقليمية اعتبرتها معادية تاريخيّاً . إذ قد يُعتبر الدّمج الكامل للهويّات غير اليهودية تهديداً لهذا التماسك الوطني . فالتّقدير الكامِل للهويّات الأقلويّة ، مثل العَرب الإسرائيليين ، قد يُفسّر على أنه تحدٍ للهويّة اليهوديّة للدّولة .
علاوةً على ذلك ، إستمدّت إسرائيل شرعيّتها الدوليّة جزئياً من كونِها ملاذاً للشّعب اليهودي . وتستَند هذه الشرعيّة إلى هويّة قوية ومحددّة جدّاً . في ظل العولمة الهويّاتية ، حيث يُقبل ويُشجَّع على التّعدد الثقافي ، قد تجد إسرائيل صعوبة في الحِفاظ على نموذجها المجتمعي إذا ما أصبح يُنظر إليه على أنه حصري أو غير شامل .
ورغم هذه التحدّيات الهوياتيّة ، فقد نجحت إسرائيل في الاستفادة من العولمة الاقتصاديّة. منذ تسعينيّات القرن الماضي ، إستطاعت الدّولة أن تتبوأ مكانة رائدة كـ”أمة الشركات الناشئة” ، مستفيدة من الإبتكار التكنولوجي وريادة الأعمال لتحفيز نموّها الإقتصادي . ففي عام ٢٠٢٣ ، تصدّرت إسرائيل قائمة الدول الأكثر إستثماراً في البحث والتّطوير ، حيث شكّل هذا الإستثمار حوالي ٤.٩ % من ناتجها المحلي الإجمالي ، وهو من أعلى النّسب على مستوى العالم . وتمثّل الصّناعة التكنولوجيّة أكثر من ٤٠ % من الصّادرات الإسرائيليّة ، مع شركات رائدة مثل ” تشيك بوينت ” و” موبيلاي” و” وايز ” التي تلعب دوراً بارزاً على السّاحة الإقتصاديّة الدّولية .
إضافة إلى ذلك ، عزّزت إسرائيل شراكاتها الإقتصاديّة بفضل ” إتّفاقيّات إبراهيم ” التي وُقّعت في عام ٢٠٢٠ ، ممّا فتح أمامها فرصاً تجاريّة جديدة مع الإمارات العربية المتّحدة والبحرين و دول خليجيّة أخرى . ففي عام ٢٠٢٢ ، بلَغ حجم التّبادل التّجاري بين إسرائيل والإمارات ٢.٥ مليار دولار ، وهو رقم يعكس التّزايد المتسارع للإندماج الإسرائيلي في إقتصاد الخليج .
وقد سمحت هذه الأتفاقيّات لإسرائيل بالوصول إلى أسواقٍ جديدة وجذب استثمارات ضخمة ، خاصّة في مجالات التّكنولوجيا والطاقة والبنية التحتيّة ، مما عزّز دورها في مبادرة “الممر الهندي” .
لكنّ هل قوّة العنصر الإقتصادي و التّكنولوجي هو معيار استقرار الدّول؟