غريب أمر هذا “اللبنان”. فعندما كان يُقال إنه ملاذ آمن لجميع المضطهدين في بلادهم، أو لجميع عشّاق الحرية وطالبيها، كان البعض يستهزئ من هذا القول، ويعتبره بمثابة شعارات من دون مضمون، أو نوعًا من أنواع التغنّي بالأمجاد اللبنانية غير المتطابقة مع الواقع. إلاّ أن لجوء أعداد كبيرة من السوريين إلى الربوع اللبنانية إبان الحرب السورية بحجة الهرب من حكم نظام الأسد في المناطق التي كان يسيطر عليها قبل سقوطه، وكذلك ما نشهده اليوم من تدفق أعداد كبيرة أيضًا من السوريين الهاربين من المجهول في بلادهم، لخير دليل على أن لبنان كان ولا يزال هذا الملاذ الآمن لجميع الذين يرون فيه واحة حرية وملجأ لهم.
وفي اعتقاد كثيرين من اللبنانيين وغير اللبنانيين أن لبنان يكفيه هذا الدور كتعبير متقدم لرسالته، التي حدّدها له قداسة الحبر الأعظم الراحل القديس يوحنا بولس الثاني، والتي استوحى منها بالتأكيد قداسة البابا فرنسيس عندما وقع مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وثيقة الأخوة في أبو ظبي قبل سنوات من الآن. إلاّ أن هذا الدور يزعج كثيرين على ما يبدو، وبالأخصّ الإسرائيليين، الذين يرون في النموذج اللبناني نقيضًا لتركيبة مجتمعهم الأحادي على غرار الكثير من دول المنطقة، التي لا تعترف بالتعددية والتنوع، وهما صفتان يتميز بهما لبنان عن غيره من الدول.
فهذه التركيبة اللبنانية القائمة على توازنات طائفية وصفها الرئيس نبيه بري في الكلمة التي وجهها إلى اللبنانيين والعالم يوم تم الاتفاق على قرار وقف النار بأنها “نعمة”، وهي بالفعل هكذا أذا أحسن اللبنانيون إدارة التباينات في وجهات نظرهم. وهذه الإدارة لا تتم عن طريق استقواء فريق على فريق آخر، ولا عن طريق عدم الاعتراف المتبادل بين بعضهم البعض بأن لا أحد في هذه المعمورة قادر على أن يحكّ ظهورهم كأظفارهم. وبالتالي فإن الذين فكّروا في يوم من الأيام أن قمح الغريب أفضل من زوأن بلادهم اكتشفوا، ولو بعد حين، أن العكس هو الصحيح.
ما سمعه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من البابا فرنسيس سمعه أيضًا من جميع الذين التقاهم في الآونة الأخيرة من مسؤولين عرب وأجانب. وقد يكون هذا النوع من الكلام هو ما يحتاج إلى سماعه جميع اللبنانيين من المسؤولين، إلى أي فريق انتموا. فقلب البابا فرنسيس على لبنان. وكذلك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومعظم رؤساء الدول الشقيقة والصديقة للبنان، الذين عبّروا عن حرصهم على أن يبقى هذا البلد الصغير بحجمه الجغرافي مثالًا يُحتذى في طريقة عيش جميع أبنائه مع بعضهم البعض على رغم ما يشوب هذه العلاقات من هنّات وتشوهات عرضية.
مراجع كنسية تؤكد أن البابا فرنسيس سيزور لبنان في الوقت الذي تراه الفاتيكان مناسبًا. وهذه الزيارة، إذا حصلت، ستكون مناسبة لإعلان هذا الوطن الفريد ساحة تلاقٍ وحوار وبلدًا مفتوحًا بما يعنيه هذا الأمر من تكريس مبدأ حيادية لبنان والنأي بنفسه عن صراعات الآخرين. وهذا يعني أيضًا عدم العودة إلى سياسة المحاور الإقليمية، خصوصًا أن التجارب السابقة التي مرّ فيها لبنان أثبتت أن هذا البلد الضعيف بإمكاناته المتواضعة غير قادر على أن يصمد عندما يتصارع الفيلة على أرضه. فالخسائر المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن هذا الصراع هي أكبر من قدرات اللبنانيين على تحمّلها وحيدين. وإذا لم تسارع الدول المؤمنة بأن قوة لبنان تكمن بوحدة أبنائه وبصيغته الفذّة والفريدة وليس بأي شيء آخر على مدّ يد العون له لن تكون له قيامة مما يتخبّط به.
من هنا، ترى مصادر سياسية واكبت الاتصالات التي سبقت الاتفاق على قرار وقف الحرب في لبنان أن السبيل الوحيد لخروج لبنان من أزماته المتشابكة لن يكون إلا عبر مسألتين لا ثالث لهما، وهما: الوحدة الداخلية وتكريس مبدأ الحيادية. وعلى هذا الأساس سيتمّ انتخاب رئيس للجمهورية يكون مؤمنًا بهذين الحلين كانطلاقة ثابتة وراسخة لإعادة بناء الدولة وإعادة ترميم ثقة اللبنانيين بعضهم ببعض كخطوة أولى لاستعادة ثقتهم بدولتهم.