كتب جورج شاهين في الجمهورية
توقفت مراجع ديبلوماسية وسياسية أمام الخطوات الاولى لإنهاء مرحلة خلو سدّة الرئاسة، التي انطلقت من عين التينة. وبعيداً من شكلها وتوقيتها ومضمونها وما عكسته من تمثيل اسلامي، فإنّ مضمونها يتجاوز هذه الملاحظات، لمجرد أنّها جاءت ممن كان عاجزاً او رافضاً هذه الخطوة المتقدّمة. وهو ما يدفع إلى ملاقاتها بإيجابية، لعلها جاءت بدعم اقليمي ودولي، إن صدقت بعض السيناريوهات المتداولة على خلفياتها المتعددة. وهذه عينة من المؤشرات والدلائل.
من دون إغفال حجم العقبات التي تحول دون رؤية مشهد النواب يتقاطرون الى ساحة النجمة من اجل انتخاب الرئيس التوافقي على عتبة العام الثاني من الشغور الرئاسي، فإنّ الأمل انتعش بإمكان انتهاء مرحلة من المخالفات الدستورية والقانونية التي لم يعرفها اللبنانيون، وخصوصاً انّها لم تكن من الأعراف والسوابق، وهي قادت البلاد إلى أكثر من محطة من الانهيارات المتناسلة. فالأزمة الحقيقية لم تعد اقتصادية ومالية، ومن التي يمكن معالجتها بإجراءات نقدية وعلمية. لكن ما يثير القلق انّها بلغت مرحلة مسّت الأخلاقيات السياسية والانسانية، وتجاوزت كل السقوف إلى ان هدّدت الكيان ووحدة الشعب والعيش معاً، وعززت المخاوف من قيام المربعات اللبنانية المتحللة غير المتحدة.
على هذه الخلفيات، بُنيت الآمال على المبادرة الثلاثية التي أطلقها كل من رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي ومعهما رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط، في انتظار التعمّق في خلفياتها والدوافع التي قادت إليها، بغية التثبت من أنّها ليست “ارنباً” عابراً يمكن ان يقود المتعاطين والمستهدفين منها إلى حيث انتهت بقية المبادرات التي سبقتها. وانّها مختلفة عن تلك التي تبخّرت معها الآمال بقدرة اللبنانيين على ادارة شؤونهم الداخلية وعجز أصدقائهم عن تقديم اي معونة. بعدما تفسخّوا وتلبننوا إلى درجة عكست الانقسامات الداخلية الحادة، فانقسموا ثنائيات وثلاثيات، وتعطّلت أدوارهم إلى حدود اعترافهم بالعجز عن مواجهة المحن.
وبناءً على ما تقدّم، لم تعط الخطوة وما تلاها من ردّات فعل متناقضة صورة عن نهايتها. وان تمّ النظر إليها قياساً على ما هو معلن من مواقف في ظل التصنيف الواجب للتمييز بين النيات الصادقة والملتبسة فقد تعززت المخاوف مما يمكن أن تنتهي إليه من مشاريع ملغومة. وهذا بعض منها:
– لم يكن الانتقاد الذي طاول غياب المكون المسيحي عن اللقاء الثلاثي وحيداً وعلنياً، ففي الكواليس السياسية تساؤلات سنّية مشابهة شكّكت بحجم التمثل السنّي لرئيس الحكومة بالنسبة الى ما يتمتع به شريكيه على المستويين الشيعي والدرزي. فهو يفتقد كتلة نيابية وسط اعتقاد بأنّه كون نواتها منذ فترة، وسبق له أن خصّصهم بكم من الخدمات من موقعه في رئاسة الحكومة.
– ضرورة التثبت من حجم التفويض المعطى إلى بري من جانب “حزب الله”، في ظل الحملة التي تعرّضت لها خطوته في أوساط الحزب ومحيطه السياسي رفضاً لاعطاء الأولوية لانتخاب الرئيس قبل جلاء تطورات العدوان الإسرائيلي والغموض الذي يحوط بقيادة الحزب الجديدة التي لم يعلن عنها بعد. ولذلك طرحت الاسئلة إن كان كافياً أن يستند في مبادرته الى ما كشفه عن اتفاق مسبق كان قد توصل إليه مع الامين العام الشهيد السيد حسن نصرالله ومدى صلاحيته.
– افتقار ما طُرح إلى الآلية التي يمكن اعتمادها لترجمة الخطوة عند ملامسة البحث في أسماء المرشحين بعد نقزتين. الاولى تجلّت بما تسبّب به حديث ميقاتي بعد لقائه مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من دعوة الى الحوار. ولم ينفع التبرير بأنّها زلّة لسان، وانّ ما اشار اليه لا يشبه الدعوة التي كان يتمسك بها بري قبل التراجع عنها. وثانيها برز بإشارة بري نفسه لاحقاً الى انّ الوزير السابق سليمان فرنجية ما زال مطروحاً على أنّه خيار حيادي.
– لا يمكن البت بخطوة مشاركة المعارضة النيابية وهي بأكثرية مسيحية بحكم تكوينها، في مثل هذه الآلية قبل ان تنتهي مشاوراتها الى اسم مرشحهم “المحايد” و”الجامع” الذي لا يستفز احداً ويحظى بالإجماع المطلوب. ذلك انّ مثل هذه العملية احتسبها ثلاثي المبادرة، عندما قالوا في تبريرهم خطواتهم في شكلها أنّه لم يتمّ العثور على من يمثل جميع المسيحيين بشخصه. وهو أمر لم يكن مهملاً قبل انعقاد اللقاء ولم يكن غائباً عن ذهن اصحابه كما تسرّب من اوساطهم.
– ما زالت التساؤلات مطروحة حول ما يمكن ان تقدّمه “الخماسية” من أجل لبنان من خدمات يمكن ان تؤدي الى تسهيل ولادة التفاهم على الخيار الثالث، بعدما أُضيفت اليه مواصفات “الحيادي” الذي “لا يستفز احداً ولا يشكّل تحدّياً لأحد” في ظل وجود أكثر من مرشح لدى بعض أطرافها، وهو امر غير خافٍ بعدما انتهت زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان إلى الكشف عن اسمين له يمكن انّ يحظيا بالتوافق من لائحة اخرى غير تلك التي شملت كلاً من قائد الجيش العماد جوزف عون والمدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري.
– ما زالت التساؤلات مطروحة حول ما يمكن اعتباره مؤشراً ودافعاً لإطلاق هذه الخطوة وإن كانت ترجمة لمضمون المبادرة الأميركية – الفرنسية الاخيرة ومعهما مجموعة من الدول الصديقة. كما بالنسبة إلى ما صدر عن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الذي تبنّى الطرح الدولي بوجوب “وقف إطلاق النار في غزة وتطبيق القرار 1701 ومخرجات اتفاق الطائف في شأن لبنان”، وفي انتظار التثبت من دقة هذه النظرية لا يمكن الحسم بأنّها كانت سبباً مشجعاً لبري وشركائه، بعدما تلاقت العبارات والمواصفات عينها فيها جميعاً، كما في اسبابها الموجبة واهدافها.
وإلى تلك المرحلة وانتظاراً للخطوات المقبلة، يبقى ان ما بات ثابتاً ومرغوباً به هو أنّ البلاد تحتاج الى رئيس للدولة ينهي مرحلة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها. وهو يتمتع بمواصفات تسمح له بأن يقلب “الصفحة والصورة” معاً. وإن لم يتوافر له الدعم الكافي من الداخل والخارج لإدارة المرحلة، لن ينجح. وفي حال العكس لربما تركت له المبادرة على خلفية “الامر لي” طلباً لوقف النار ونشر الجيش في الجنوب وتطبيق القرار 1701، ما لم يكن المجتمع الدولي قد توصل الى وقف للنار في غزة او جنوب لبنان.