لغاية كتابة هذه السطور، لم يكن المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين قد أودعَ من يتواصل معهم على الجانب اللبناني نيّته زيارة بيروت فور الإنتهاء من رحلته إلى تل أبيب اليوم. هذا أيضاً ما تؤكده معلومات خاصة بـ”ليبانون ديبايت”، بأن هوكشتين لم يبلّغ القنوات المعهودة التي يتواصل معها عادة في لبنان أي معطيات تشير إلى احتمال هبوطه في المطار، يضاف إلى ذلك عدم مبادرة السفارة الأميركية بحجز مواعيد سياسية وأمنية له.
ما يفهم إذاً أن هوكشتين قد حصر زيارته بتل أبيب، وهذا يعود إلى جملة أسباب:
أولاً ،عدم وجود أي تطور لبناني يُمكن إضافته على صعيد ما تمّ إبلاغه إلى هوكشتين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت الشهر الفائت، حيث بقي خيار لبنان نفسه في الذهاب إلى وقف لإطلاق النار في الجنوب، متى تمّ التوصل إلى صيغة تؤدي لوقف الحرب على قطاع غزة.
ثانياً، يُريد هوكشتين إطلاع الجانب الإسرائيلي على آخر تطورات وساطته المتعلقة بالتوصل إلى تسوية على جانبي الحدود بين لبنان و “إسرائيل” ربطاً باتفاق مسبق بينهما، حيث كان الإسرائيليون قد حددوا مهلة معينة لهوكشتين وطلبوا خلالها إطلاعهم على التطورات قبل انقضاء المهلة. بالإضافة إلى ما تقدم، يحمل هوكشتين رسالةً من إدارة البيت الأبيض إلى الحكومة الإسرائيلية، تحضّها على عدم توسيع نطاق الحرب ضد لبنان والتزام معايير النسق الحالي للمعركة وفقاً لما تمّ التفاهم عليه مع الأميركيين، وربما على طلب تفويض مكرّر لفترة معينة ضمن العنوان نفسه: “العمل علىالتوصل إلى تفاهم”.
بنيامين نتنياهو بات يتدرّج، على ما يبدو، في إعطاء انطباعات عن كونه بات أكثر تحرراً من أي التزام تجاه الأميركيين متى أنهم لم يتوصلوا إلى شيء بالنسبة للتفاهم مع لبنان حول وضعية تواجد “حزب الله” عند الحدود.
يقول نتنياهو إنه سلّف الأميركيين حوالي أحد عشر شهراً وهي فترة تفاوض “طويلة” كي يتمكنوا من إنجاز تفاهم ولم ينجحوا، وبالتالي لم يعد في وارد القبول بأي مقترحات أميركية أو حتى إبلاغه رسائل.
كنوعٍ من الحيل، إستبقَ نتنياهو تحديد البيت الأبيض موعداً لزيارة هوكشتين إلى تل أبيب اليوم الأثنين حتى انبرى، هو والمقرّبون منه، إلى إغراق وسائل الإعلام العبرية بمعلومات ومعطيات تشير إلى أنه قد تقرّر الذهاب نحو توسيع المعركة مع لبنان، وأنه أعطى أوامره بتركيز العمل العسكري الحالي عند الجبهة الشمالية، وأنه خصّص اليوم الإثنين، موعداًلاجتماع الـ”كابينت” الإسرائيلي لدراسة الخطط المستقبلية للتعامل مع لبنان، أي في التاريخ نفسه الذي أبدى فيه هوكشتين عزمه على زيارة تل أبيب.
من الواضح أن هذا الأداء الإسرائيلي موجّه إلى هوكشتين وإدارة بايدن والحزب الديمقراطي، أكثر من كونه موجهاً نحو الحكومة اللبنانية أو الحزب. ببساطة، يحاول نتنياهو إرساء مزيدٍ من الضغوطات على المبعوث الأميركي وعبره على الإدارة الأميركية وعلى الحزب الديمقراطي ملوّحاً بالحرب، كي يدفع إلى التخفيف من مضمون الرسائل التي يحملها هوكشتين أو تجاهل بحثها كما أتت في مقابل محاولة الفرض على المبعوث الأميركي البحث في “جدول أعمال إسرائيلي” وليس أميركياً.
إلى ماذا ترمي تل أبيب؟
خلال الأيام والأسابيع المنصرمة اتضح أن إسرائيل أجرت تعديلاً عسكرياً على تعاملها مع جبهة لبنان لكنه لم يأت خارج المفاهيم التي تم إرساؤها منذالثامن من تشرين الأول الماضي، أي شنّ عمليات قصف بغرض ملاحقة المقاومين أو اغتيالهم. الأمر الوحيد الذي كان خارج المألوف تمثل بالإعتماد على “الأحزمة النارية” بشكلٍ لافت، وهذه صبّت ضمن استراتيجية جديدة تتصل بملاحقة عمق المقاومة وأيضاً مواقع الثقل وخطوط الإمداد. في المقابل كانت المقاومة تنوّع من عمليات الإستهداف والقصف وقد بيّنت الوقائع أنها ذهبت إلى نسق حربي تجاوز الإطار المرسوم أو المعتمد منذ الثامن من تشرين الأول.
المقاومة: أبعد من معركة إسناد
تقول المقاومة إنها باتت تختبر نماذج من تقصّد العدو إلحاق الدمار المنظم ضمن دائرة قرى الخط الأمامي المواجهة للحدود وتحويلها إلى مناطق غير قابلة للحياة. ما يمكن فهمه عسكرياً أن إسرائيل تحاول خلق أمر واقع جديد أو فرض أمر واقع على الأرض، يتمثل في إنشاء منطقة عازلة ضمن حدود معينة. عملياً هذا يعني أن ما لم ينجح هوكشتينفي تحقيقه دبلوماسياً، يحاول نتنياهو جعله أمراً واقعاً عسكرياً.
إن ذهبنا أبعد، نجزم أن “العصابات” الدينية الممثلة في الحكومة الإسرائيلية وطبقاً لمواقفها تنادي بإعادة احتلال الجنوب بوصفه جزءاً من الجليل الأعلى، وعلى الطريق محاولة القضاء على وجود المقاومة فيها.
بناءً عليه يظهر أن المقاومة قد أتمّت فعلاً إجراء تحويل موضعي على تكتيكاتها وعلى قواعد العمل المعتمدة منذ الثامن من تشرين الأول بما يتناسب ويتلاءم مع الوضع الراهن. الآن لم يعد النشاط العسكري بالنسبة للمقاومة مقتصراً على العمل تحت سقف “معركة الإسناد”، إنما تتحول رويداً رويداً تجاه فتح ملف عسكري مختلف يترافق وتوجيه نسق نيران واضح تجاه العدو، يضمن إنتقالاً سلساً إلى فعل هجومي – دفاعي واضح، أي إلى شيء من معركة عنوانها الحفاظ على الوجود وعدم تمكين العدو الإسرائيلي من إنشاء منطقة عازلة ضمن الشريط الحدودي اللبناني.
عملياً، تستفيد المقاومة من عدة عوامل هي:
– إبقاء منطقة الجليل أو الشمال المحتل بشكل عام، منطقة فارغة معدومة الحياة. عقل “حزب الله” العسكري، يرمي إلى إبقاء هذه البقعة راهناً ولأكبر فترة ممكنة ضمن هذه الوضعية مما يزيد من حالة الإستنزاف إسرائيلياً.
– تعتقد إسرائيل أن تعمّد الحزب إبقاء الشمال فارغاً أو في حالة حربية، يرمي إلى توفير ظروفٍ لتنشيط عمل بري معين من جانبه في توقيت معين (وهذا صحيح). لذلك تصرّ تل أبيب على “عسكرة” المنطقة الممتدة إلى عمق 10 كلم داخل الأراضي المحتلة وإنشاء المزيد من خطوط الدفاع.
– مصلحة الحزب اليوم، في الذهاب إلى اشتباك بري محدود مع العدو. في المقابل يعتبر العدو أن مأسسة “منطقة عازلة” لا يتمّ من خارج الإشتباك البري، لكنه يقف أمام معضلة تتمثل بعدم التيقنمن قدرته على تحقيق إنجاز عسكري بري يؤدي إلى تحقيق الغاية.
تنقل موريا أشراف في القناة الـ13 العبرية عن مسؤول كبير في دائرة نتنياهو: “لم يتم تحديد موعد للتحرك العسكري شمالاً، ولن يحصل ذلك قبل أسابيع أو بضعة أشهر”. على هذا الأساس ما زالت تل أبيب تتهيّب خيار الذهاب إلى اشتباك برّي مع “حزب الله”.