بعيدًا عن كلّ “قواعد الاشتباك”، أو ما بقي منها منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما خلّفه من توتّر في المناطق الحدودية الواقعة جنوبي لبنان، جاءت المجزرة الإسرائيلية التي استهدفت سيارة مدنيّة في بلدة عيناتا الجنوبية، جلّ ركابها من النساء والأطفال، الذين يبدو أنّهم يشكّلون “بنك الأهداف” للعدو الإسرائيلي، بدليل المجازر المتنقّلة التي يرتكبها من قطاع غزة إلى جنوب لبنان.
لكنّ هذه المجزرة لم تأتِ “معزولة” في سياقها، فالجرائم الإسرائيلية بحقّ المدنيين اللبنانيين متواصلة منذ شهر من دون حسيب أو رقيب، حتى وصلت “المحصّلة” إلى 10 شهداء في أقلّ من ثلاثين يومًا، وهي “محصّلة” لا تشمل عناصر المقاومة المستنفرين على “الجبهة”، ولا تندرج بالتالي في خانة “الدفاع عن النفس” المزعومة، بل تنحصر بالمدنيّين، ومنهم نساء وأطفال، إضافة إلى المصوّر الصحافي عصام عبد الله.
أكثر من ذلك، جاءت هذه المجزرة في وقتٍ كان اللبنانيون منهمكين بنقاش خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، عبر تكريس انقسامهم العمودي، وصولاً حتى استغلال ظرف الحرب لـ”تصفية الحسابات” فيما بينهم، لتعيد فتح باب التكهّنات على مصراعيه، انطلاقًا من المعادلات التي أرساها الخطاب الأخيرة، وأهمّها “مدني مقابل مدني”، فهل تدخل المعارك جنوب لبنان “مرحلة جديدة”، بعد مجزرة عيناتا المُدانة؟!
من يحاسب العدوّ؟
صحيح أنّ بين اللبنانيين من لا يزال أسير سؤال “هل تندلع الحرب؟”، وهو سؤال طُرِح كثيرًا قبل خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” الأخير، وسيُطرح مجدّدًا في الفترة الفاصلة عن خطابه الثاني المرتقب يوم السبت المقبل، إلا أنّ هناك من يذكّر في المقابل بأنّ هذه الحرب واقعة في جنوب لبنان منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، إلا إذا كان البعض، خصوصًا من الفريق “السياديّ”، شطب هذه المنطقة من الجغرافيا اللبنانية حتى إشعار آخر.
لعلّ مجزرة عيناتا شكّلت “جرس الإنذار” الأول لكثيرين، فالجريمة التي اقترفها العدو الإسرائيلي بدت جريمة ضدّ الإنسانية بكل المقاييس، ولا سيما أنّها استهدفت ثلاث طفلاتٍ بريئات مع جدتهنّ، ما أيقظ مشاعر “الغضب” لدى كلّ من تفاعل مع الخبر، لكنّ الثابت وفق ما يقول العارفون أنّها ليست الجريمة الأولى ولا الوحيدة، إذ سقط من المدنيين أكثر من 10 شهداء حتى اليوم، بقصف إسرائيلي همجي، لا مبرّر له على الإطلاق.
وإذا كانت الحكومة سارعت لتقديم شكوى عاجلة ضدّ العدو الإسرائيلي على خلفية الجريمة، التي تضاف إلى سجل العدو الحافل بالانتهاكات، فإنّ السؤال الأكبر، حتى قبل البحث بالردود المحتملة على الجريمة، هو عن المحاسبة الغائبة دومًا، في ظلّ ازدواجية المعايير لدى جزء كبير من المجتمع الدولي، ممّن يحوّلون الجلاد إلى ضحية في غزة مثلاً، إلا إذا كان الأطفال هم الذين يشكّلون “التهديد الوجودي” لهذا العدو.
مرحلة جديدة من الحرب
من السياسة إلى الميدان، جاءت مجزرة عيناتا لتعيد طرح علامات الاستفهام عن “حدود وضوابط” المواجهة في الجنوب، خصوصًا أنّ إسرائيل كما يؤكد العارفون خرجت عن كلّ قواعد الاشتباك بانتهاكاتها المستمرّة، وأنّ مثل هذه الجريمة لا يمكن أن تمرّ بلا ردّ من المقاومة، في وقتٍ ثمّة من يعتقد أنّ تدحرج الأمور أكثر فأكثر بات “مسألة وقت” ليس أكثر، إذا ما استمرّت الخروقات والجرائم تتصاعد بهذا الشكل.
يتوقف العارفون عند الانطباعات التي سادت بعد الخطاب الأخير للأمين العام لـ”حزب الله”، فصحيح أنّه فُسّر في جانب منه، على أنّه تكريس للوضع القائم، بعيدًا عن “إعلان الحرب” كما توهّم كثيرون، إلا أنّه أيضًا كان واضحًا بترك كل الخيارات مفتوحة ومطروحة على الطاولة، وبتأكيد أنّه لن يتمّ الاكتفاء بما يحصل في الجنوب حاليًا، ولو وصفه بـ”غير المسبوق” منذ ما قبل تموز 2006، بل منذ التحرير في 25 أيار من العام 2000.وإذا كانت معادلة “مدني مقابل مدني” التي أكّد عليها السيد نصر الله في خطابه، وُضِعت سريعًا أمام الامتحان برأي كثيرين، فإنّ العارفين يجزمون أنّ “المرحلة الثانية” من الحرب التي يكثر الحديث عنها قد لا تكون “نتيجة مباشرة” لمجزرة عيناتا، بل إنّها سابقة لها، باعتبار أنّ كسر “حزب الله” لسياسة الصمت الإعلامي، شكّل المؤشّر على انتهاء مرحلة وبدء أخرى، ولو أنّ المرحلتين تتشابهان في الشكل، لناحية عدم الذهاب إلى “حرب شاملة” في الوقت الحاليّ.
ليست مجزرة عيناتا الأولى في “سجلّ” العدو، الذي لطالما “تفنّن” في استهداف المدنيين وقتل الأطفال، خصوصًا عندما يحتاج للتغطية على إخفاقه استراتيجيًا واستخباراتيًا. وقد لا تكون هذه المجزرة “الأخطر” في سجلّ المجازر التي يرتكبها في غزّة كلّ يوم، حيث يتصدّر الأطفال قائمة الشهداء. فهل يتلقف اللبنانيون الرسالة فيتّحدون في مواجهة، تغيب عنها المعايير الأخلاقية التي يفتقدها العدو من الأساس؟!