“لن يحاكم سلامة في بيروت، هذا أمر شبه محسوم، وقد تكون محاكمة غيابية في حال امتنع عن الامتثال، لكنه لن يستطيع أن يتجنّب المحاكمة في أوروبا. إنها لحظة بالغة الأهمية”.
بضعة أسابيع أو أشهر على أبعد تقدير، هي المدة الزمنية التي تفصل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن مرحلة الادعاء عليه أمام محاكم أوروبية، وفق مصادر محلية ودولية متابعة لعمل المحققين الأوروبيين الذين بدأوا في بيروت جلسات استماع إلى شهود، في إطار تحقيقهم في عمليات غسيل أموال واختلاس يُشتبه في أن سلامة ارتكبها.
“عام 2023 هو عام البدء بمحاكمة رياض سلامة”، يقول مصدر أوروبي بكثير من الثقة لـ”درج”. “لن يحاكم سلامة في بيروت، هذا أمر شبه محسوم، وقد تكون محاكمة غيابية في حال امتنع عن الامتثال، لكنه لن يستطيع أن يتجنّب المحاكمة في أوروبا. إنها لحظة بالغة الأهمية”.
المحققون الأوروبيون يمثلون تقاطعاً في تحقيقات ما بين فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ في شأن نشاطات سلامة المالية والعقارية، على مدى ثلاثة عقود من ترؤسه البنك المركزي، والتي شهدت انهيار النظام المالي والمصرفي في لبنان.
وعلى عكس ما يتم الترويج له في بيروت عن “خلو الملفات” في أوروبا من أي معطيات تدين سلامة، تلتقي مصادر لبنانية وأوروبية على أن هناك “شبه اكتمال” في ملفات المدّعين العامين في الدول التي تحقق في قضايا فساد وتبييض أموال إثراء غير مشروع، فضلاً عن اختلاس 326 مليون دولار حُوِّلت من مصرف لبنان إلى حسابات شركة “فوري” السويسرية، التي يملكها شقيق الحاكم رجا سلامة والتي كشف عنها للمرة الأولى في نيسان/ أبريل 2021، بعد تسريب طلب المساعدة القضائية الذي تقدم به النائب العام السويسري إلى القضاء اللبناني في كانون الثاني/ يناير من العام نفسه.
“أن يطلب رئيس حكومة من رئيس بعثة ديبلوماسية التدخل في عمل القضاء ليس تفصيلاً صغيراً وهو مؤشر واضح إلى رغبة السلطة الحاكمة في لبنان بالعرقلة“
تتقاطع معلومات من مصادر مختلفة مشيرة إلى أن التحويلات “الغامضة” التي قامت بها شركة “فوري” لأكثر من 207 ملايين دولار إلى خمسة مصارف لبنانية هي: بنك “البحر المتوسط”، “الاعتماد اللبناني”، “عودة سارادار” و”مصر ولبنان”، والتي كشفها نص طلب المساعدة السويسري في سياق طرح سؤال حول أسبابها في حينه، هذه التحويلات هي موضوع “محوري” في تحقيقات ممثلي الادعاء الأوروبي.
ممثلو أعضاء وفد التحقيق الأوروبي اطلعوا على وثائق، من بينها “سجلات مصرفية لتحويلات قام بها رجا سلامة”، وفق ما نقلت “رويترز” عن مصادر التحقيق، لكن لم يُعرف ما إذا كانت من بين هذه الوثائق، السجلات التي قدمتها مصارف لبنانية إلى “هيئة التحقيق الخاصة” التابعة لمصرف لبنان، والتي أكدت مصادر مصرفية وقضائية مطلعة لـ”درج”، إظهارها أن تحويلات شركة “فوري” كانت في غالبيتها لحسابات لبنانية “تابعة لرياض سلامة وآخرين من دائرته الضيقة”. يرجح ذلك احتمال تهمة الاختلاس وينفي ادعاءات سلامة بأن الأموال التي حُولت من مصرف لبنان لمصلحة شركة فوري “كانت بموجب عقد وقّعه مصرف لبنان مع الشركة لتقديم خدمات مالية متّصلة بإدارة سندات الدين اللبنانية بالعملات الأجنبية مقابل عمولة”، على ما قاله سلامة في إفادته أمام المحامي العام المالي جان طنوس في الخامس من آب/ أغسطس 2021.
وتشدد مصادر حقوقية متابعة، على أهمية اطلاع الوفد الأوروبي على سجلات “هيئة التحقيق الخاصة”، لا سيما أن سلامة نفسه هو من يرأسها وبالتالي لا يمكن التعويل عليها للكشف عن هذه المعلومات طوعاً. وهذا ما أظهرته الطريقة التي تعاطت بها الهيئة مع طنوس نفسه في مرحلة سابقة.
خلال تولّيه التحقيق بين نيسان 2021 وحزيران/ يونيو 2022، كان القاضي طنوس قد طلب من “الهيئة” رفع السرية المصرفية عن حسابات رجا سلامة لتحديد المستفيدين من التحويلات العائدة الى شركة فوري، بحجة أن السرية المصرفية لا تنطبق على قضايا الإثراء غير المشروع.
لم تستجب الهيئة، ما دفع بطنوس آنذاك إلى مداهمة المصارف. تدخل يومها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مهدداً بالاستقالة أو بإقالة المدعي العام غسان عويدات، اذا ما استمرت عملية المداهمة، متهماً القوى الأمنية المؤازرة لطنوس بالقيام “بما لم تقم به إسرائيل”. هكذا توقفت العملية وكُفت يد القاضي طنوس وبقيت سجلات الهيئة محميّة بالسرية المصرفية من جهة والتدخل السياسي من جهة أخرى.
لا يزال اطلاع المحققين الأوروبيين على سجلات الهيئة أمراً غير مؤكد، على رغم محورية مضمونها. فمعظم التحقيقات في أوروبا ترتكز على “نظافة” الأموال التي استخدمها سلامة لشراء عقارات في هذه الدول، من بينها عقارات في ألمانيا و بلجيكا ولوكسمبورغ تجاوزت قيمتها الـ120 مليون دولار، كانت منظمة EUROJUST قد أعلنت عن تجميدها في آذار/ مارس من العام الماضي شبهة ارتباطها بقضية تبييض أموال. بالتالي، أهمية تحديد من هم المستفيدون من تحويلات “فوري”. وهذه العقارات كان تحقيق لـ”درج” و occrp أول من كشف عنها.
وكشفت صحيفة ناشيونال الصادرة في أبو ظبي، عن مراسلة حملت توقيع قاضية التحقيق الفرنسية AUDE BURESI، قالت فيها أن “لا عمولات قد دفعت الى تغطية أي نشاط حقيقي قامت به شركة فوري، والمستفيد الوحيد كان رياض سلامة ومقربون منه ومن دون علم مصرف لبنان”. المراسلة تحدثت عن عمليات تكديس مال متتالية، حصلت عبر أشخاص ودول مختلفة، ما أدى إلى تمويه المصدر الأصلي للأموال، وهو ما يثير شبهة تبييض أموال من دون حسمها في ضوء السرية المصرفية.
لم يطلع “درج” على إثباتات تظهر تفاصيل التحويلات أو تحسم أمر حصولها من عدمه، إلا أن مصادر مصرفية مختلفة وغير مرتبطة أكدت أن المصارف الخمسة المعنية، ووفقاً للقانون، قدمت معلومات تثبت أن سلامة و مقربين منه كانوا المستفيدين منها سواء عبر حسابات مصرفية أو شيكات جُيِّرت لمصلحة الحاكم.
إلا أن مصادر مقربة من التحقيقات التي يجريها الوفد المؤلف من 18 عضواً، بينهم قضاة ومحققون ومترجمون، والتي لم تحسم موضوع اطلاع أعضاء الوفد على السجلات، قالت أن المسار حالياً “إيجابي”، على رغم مخاوف من العودة إلى نهج “المماطلة وخلق التعقيدات” الذي كان سائداً خلال الأسابيع الماضية وحتى بدء المحققين بمهماتهم في كانون الثاني 2023.
إقرأوا أيضاً:
بكثير من الحذر، تراقب المصادر “تسهيل” الجانب اللبناني مهمة المحققين الأوروبيين، مع شبه إجماع على أن تقييم هذا التعاطي لا يمكن ألا يأخذ في الاعتبار عدداً من الملاحظات التي لا يمكن تجاهلها سواء كانت محاولات العرقلة التي سبقت وصول الوفد الى بيروت واستمرت خلال الأيام الأولى من الزيارة، أو إمكان وقف التعاون في أي لحظة، بحجة تعيين قاض جديد بعد قبول محكمة الاستئناف في بيروت طلب سلامة برد النائب العام الاستئنافي زياد أبي حيدر، في شكل مفاجئ وبعد أشهر من المماطلة.
مدعي عام التمييز غسان عويدات قال لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، أن قرار محكمة الاستئناف يفتح المجال أمام تعيين قاض جديد خلال فترة قصيرة، الأمر الذي يرى فيه مراقبون “فرصة جديدة، تنسجم مع مصلحة الحاكم عبر تأخير عمل المحققين الأوروبيين، فأي قاض جديد سيطلب مدة لا تقل عن بضعة أشهر قبل أن يكون جاهزاً للتعاون”.
لكن على رغم ما سبق، تتوقف مصادر عند “تغير” في طريقة تعاطي الجانب اللبناني خلال الأيام الماضية، والتي جاءت على عكس توقعات الوفد الأوروبي، الذي “حضر متوقعاً السيناريو الأسوأ”، ما أدى إلى اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة أي تعقيد أو حجة، بما في ذلك حجة انقطاع التيار الكهربائي، فاتُّخذت التدابير اللازمة لمتابعة التحقيق في حال حصول ذلك.
“هناك من دون شك عدم ارتياح لدى الطبقة السياسية لمهمة المحققين الأوروبيين”، يقول مصدر أوروبي مطلع، مستعيداً ما تردد عن طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عبر قنوات ديبلوماسية في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، العمل على “تأجيل” زيارة الوفد الأوروبي بحجة عملية جراحية في العين يجريها المدعي العام غسان عويدات، وأيضاً لحاجة الجانب اللبناني إلى مزيد من الوقت.
“أن يطلب رئيس حكومة من رئيس بعثة ديبلوماسية التدخل في عمل القضاء ليس تفصيلاً صغيراًن وهو مؤشر واضح إلى رغبة السلطة الحاكمة في لبنان بالعرقلة” يقول المصدر.
هذا “الميل إلى العرقلة” استمر إلى حد ما خلال الأيام الأولى بعد وصول الوفد الى بيروت. في اليوم الأول مثلاً، أي يوم الأربعاء (11 كانون الثاني)، قيل للوفد لدى وصوله إلى مبنى العدلية أن عليه العودة في اليوم التالي، “لأن الحاجب قد غادر وهو يعيش خارج بيروت ولا يمكن استدعاؤه”. الأمور بدأت تتحسن يوم الخميس، لدى اتخاذ قرار نقل ملف التحقيق من القاضي زياد أبي حيدر الى القاضي رجا حموش، والتوصل بعد ذلك إلى تفاهم حول “شروط” التعاون.
المصادر لم تستبعد أن تكون الوثائق التي قُدمت الى الفريق غير مكتملة، لأنه وعلى الأقل من حيث الشكل الخارجي، لا تبدو الملفات ضخمة، وهي حتماً لا تضم الكومبيوترات التي كان القاضي طنوس قد صادرها من مكتب رجا سلامة في نيسان 2021. إلا أن ذلك لم يقلل من أهمية الوثائق التي اطلع عليها المحققون بعدما أبدى الجانب اللبناني “إيجابية كبيرة في التعاطي”، في بداية الأمر، أياً كانت النيات وراء هذا التغيّر الملحوظ.
ترجيح فرضية أن يكون الخوف من التعرض لعقوبات بسبب تعطيل التحقيق في قضية تبييض أموال، هو دافع السلطات القضائية “لتسهيل” مهمة القضاة، لم يلغ احتمال وجود رغبة حقيقية لدى عدد من القضاة في استعادة مسار قضائي سوي وعادل، بعيداً من الضغوط التي تعرض لها الجسم القضائي محلياً، بما في ذلك التهديد بالقتل، ما يفسر تردد القضاة في الادعاء على سلامة، والذي كان آخر فصوله رفض كل من النائب العام المالي علي ابراهيم والنائب العام الاستئنافي زياد أبي حيدر المضي قدماً في الدعوى، الأول بحجة التضارب بالمصالح والثاني بحجة عدم الاختصاص.
من دون حماسة كبيرة، تبدي مصادر حقوقية وديبلوماسية تفهماً لواقع الجسم القضائي في لبنان، وتشدّد بالتالي على أهمية المسار القضائي في أوروبا، بعيداً من أي اعتبارات سياسية محلية كانت أو دولية.
إذا صحّت التقديرات، فإن السلطة السياسية في لبنان ستستمر بمحاولة إنقاذ سلامة، سواء كان ذلك عبر السعي الى التمديد له أو الضغط السياسي على المسار القانوني في بيروت أو في العواصم الأوروبية المعنية، عبر ربط مصير سلامة بمصير كل الملفات الساخنة بدءاً من العقود التجارية التي تسعى فرنسا إلى عقدها، وصولاً إلى ملف اللاجئين، مروراً بقضايا تبييض الأموال والكبتاغون. كثيرون في بيروت يتعاطون ببراغماتية عالية مع هذا الواقع، ويتوقعون “لفلفة ما” لقضية سلامة.
هناك أيضاً قلة تؤمن بأن مجرد توجيه تهم في شكل رسمي ضد سلامة، وهو أمر بات محسوماً، سيجعل من المستحيل على مؤسسات مثل “صندوق النقد الدولي” التعامل معه، وستكون تلك بداية النهاية بالنسبة إليه.
“قد لا يصدق كثيرون ذلك، لكنْ في أوروبا قضاء مستقل، وقضاة لا يستمعون الى أحد، لا يخافون من شيء، لا يتقيدون إلا بالقانون ولا يمكن إيقافهم”، يقول المصدر الأوروبي الواثق من أن عام 2023 سيكون عام محاكمة رياض سلامة.