قبل 3 سنواتٍ وتحديداً عقب اندلاع ثورة 17 تشرين الأوّل 2019، شاءَ الرئيس سعد الحريري أنْ يتخذ قرارهُ بالإنكفاء “حُكومياً” تلبيةً لمطالبِ الشارع. في ذلك الوقت، كان الحريري يُحاول استيعاب الصّدمة الشعبيّة التي حصلت، إلا أنّ القرار بالابتعاد كان الأقربَ لخياراته حتى جاء مطلع العام 2022 ليشهد الاستقرار “الأوّلي” عند الموقف الأبرز: تعليق الحريري عمله السياسي الخاص به والمُرتبط بـ”تيّار المستقبل”. إلا أنه رغم كل ذلك وبمعزلٍ عن أسباب الأمر الذي أحدث صدمة سياسية آنذاك، لم ينسُف هذا القرار من مكانة رئيس الحكومة الأسبق في أوساطِ الطائفة السنّية، إذ ما زالت تُعلّق الآمال على عودة “حريريّة” حقيقيّة.
في الواقع، فإن تلك التوقعات والآمال تعزّزت بقوّة خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك مع تأكّد إصرار رئيس الجمهوريّة ميشال عون على مُغادرة قصر بعبدا يوم 30 تشرين الأول الجاري، وبالتالي انتهاء “عهد الصّهر جبران باسيل” الذي شنّ حرباً مفتوحة على الحريري. حقاً، بات الحديثُ يتكرر بقوّة عن عودة الأخير إلى السّاحة السياسيّة، وقد يكونُ ذلك بمثابةِ أملٍ للبعض بعدما بات باسيل الذي تجاوز عون في سلطتِه، خارجَ حدودِ الرّئاسة والقصر.
بشكل أو بآخر، فإن عودة الحريري قد تكونُ قائمة وبقوة وتقتربُ أكثر فأكثر بحسب المُحيطين به، في حين أنه لا يُمكن إستبعادها لأسباب كثيرة وعميقة تتصلُ بـ”الحفاظ على السلم الأهلي” و “اتفاق الطائف” الذي كان للرئيس الشهيد رفيق الحريري الدور الأبرز في إنتاجِه. فإنطلاقاً من أهمية صونِ الإستقرار، تتحرّك المملكة العربية السعودية باتجاه تحصين ذاك الاتفاق الذي يحتاجُ لأركانٍ أساسية تحميه وتُساهم في إرساءِ التوازن الوطني عبره، وقد يكونُ الحريري “مدماكاً” أساسياً لصون “الطائف” خلال المرحلة المقبلة.
وإذا كانت لحظة انتهاء عهد عون هي الأكثر انتظاراً بالنسبة لمختلف الأطراف السياسية، فإن ما قد يترافق معها من نتائج قد يُقلل الكثير من الضغط السياسي على الحريري في حال قرر العودة، وبالتالي فإن التسويات القادمة قد تفتحُ الباب أمام انطلاقةٍ جديدة شرط أن تكونَ بعيدة عن “تكبّد الخسائر بسبب تسويات قد تكون على حسابه الشخصي فقط”.
بمعنى آخر، فإن التسوية الرئاسية المُرتقبة والتي قد تُبصر النور في أي لحظة، لا يجب أن يتحمّل وزرها طرفٌ سياسي واحد مثلما حصل مع الحريري في العام 2016، حينما تمّ اعتباره عرّاب الطريق التي قادت عون إلى رئاسة الجمهوريّة، علماً أن “اتفاق معراب” كان المُمهد لذلك أيضاً إلى جانب دعمِ “حزب الله” المُباشر. ولهذا، فإنّ ما قد يلوحُ في الأفق يرتبط بتسوية جديدة يُحضر لها الأفرقاء الآخرون ويتحملون مسؤوليتها معاً. عندها، قد يُبارك الحريري تفاصيلها وينخرطُ بها من دون أن يتحملها وحده، ولكي لا يُصبح مجدداً في “بوز المدفع” مثلما حصل في العام 2019 وبعده.
وبمعزلٍ عن أي أمرٍ آخر، قد تُمهّد تسوية “الرئيس التوافقي” التي يجري الترويج لها في الآونة الأخيرة، طريقاً واضحاً للحريري باتجاه العودة، وقد يكونُ وصول رئيسٍ “موثوق به” عربياً ودولياً خطوة أساسيّة تؤسّس لاستقرار الحريري مُجدداً على درب السياسة وذلك لسبب واحد لا لُبس فيه، وهو أن المرحلة الجديدة بحاجةٍ إلى استقرارٍ وتعزيز من قبل الجميع، من أجل أرضية سليمة في لبنان تُمهد لانتعاش قادم. وعليه، فإن “نفور” أي طائفة أو استضعافها، وتحديداً الطائفة السنية، قد يؤدي إلى “تزعزع” اتفاق الطائف الذي يتمسك به جميع الأفرقاء من دون استثناء، وبالتالي “انكسار الانتعاش” المُرتقب، وهذا ما لا يُراد أميركياً وفرنسياً ولا حتى عربياً.
حتى الآن، لم تنجح محاولات البعض في “تزعّم الطائفة” لأن الأرضيّة الشعبية غير جاهزة لذلك، في حين أن ما لا يُمكن إغفاله في الوقت نفسه هو أن عودة الحريري – إن تحققت – ستكونُ ضربةً لـ”باسيل”، وتأكيداً على أن الأخير لم ولن ينجح في إقصاء أحد مهما تعاظمت المحاولات ومهما تعزّزت الخطوات “البائسة”. حتماً، فإن الحريري لم يجرِ نفيُه كما أنه لم يخرُج من لبنان بتمرّد على “الطائف” الذي يتم التركيز اليوم على صونه. وعلى رغم المآخذ السياسية التي قد ترتبط به، فإن الحريري ما زال مطلباً وطنياً من قبل مختلف الأفرقاء، الخصم قبل الصديق، وقد يكون لذلك ارتداداتٌ لاحقة خلال أي عودةٍ مُرتقبة.
واعتباراً من اللحظات الأخيرة للعهد، قد يسعى “الصّهر جبران” إلى تلميع صورتِه من خلال مطالبته بـ”الحوار” مع الآخرين، وهو كلامٌ برز في أكثر من محطّة. كذلك، قد يكونُ الكلام “غير المؤكد” الذي نُقل مؤخراً عن باسيل بشأن الحريري عبر القول إنه “يحبّ الأخير ويتمنى عودته إلى الحكومة”، بمثابةِ “استعطافٍ وتطييب خاطر” ومحاولة لـ”فتح صفحة جديدة”.. إلا أنّ ذلك قد يكون بعيد المنال سياسياً، لأن من سعى إلى ضرب مقام رئاسة الحكومة والاعتداء عليها، لن يلجُمَ نفسه عن محاولات إقصاء “الأقطاب” أو التطاول عليهم.. ولهذا، ستكونُ عودة الحريري – إن حصلت – تكريساً لوجود سياسي غير مرتبط بما يقرره باسيل، وسيظهر الأمرُ بمثابة قرارٍ وطني يفتح الباب أمام استقرار لم ينجح الأخير في تحقيقه طيلة العهد، ولو لمرّة واحدة فقط.