كان في إستطاعة الرئيس نجيب ميقاتي إستثمار اللقاء الأخير مع رئيس الجمهورية في المجال السياسي. وكان قادرًا على إطلاق قنابل دخانية كما يفعل غيره. لكنه لم يفعل. خرج من اللقاء الخامس، الذي كان الأسوأ، والتعبير للرئيس نبيه بري، ولم يكشف أي شيء عن مضمونه حتى إلى أقرب المقربين إليه، على رغم إنزعاجه. لم يرد أن يصبّ الزيت على النار، بل فضّل الإعتصام بحبل الصبر، والإنصراف إلى العمل الحكومي المجدي، مع أن حكومته هي حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيق لكلمة التصريف. إلاّ أن هذا الواقع لا يعني، بالمفهوم الميقاتي، الإستسلام لليأس، ووضع رِجل على رِجل، والإكتفاء بلطم الخدود.
كان في إمكان الرجل أن “يحرد” ويعتكف في منزله، ويردّد مقولة “بطيخ يكسّر بعضو”. الكلام الذي سمعه من الرئيس ميشال عون في هذا “اللقاء الأسوأ” كان المقصود منه إحراجه لإخراجه. فلو سمع أحد آخر ما سمعه الرئيس ميقاتي لكان رفع العشرة، وقال: اللهم أني سعيت ولم أوفق.
ولكنّ الذين يعرفون كيف يفكرّ الرئيس المكّلف، وهو في الوقت نفسه رئيس حكومة تصريف أعمال، وكيف يتصرّف عندما تشتدّ الأزمات، وعندما يتعرّض للضغط، يفهمون لماذا لجأ إلى السراي، وليس إلى منزله في بيروت أو في طرابلس.
فالرئيس ميقاتي يوم تمّ تكليفه لترؤس حكومة “معًا للإنقاذ” كان يعرف أن طريق المسؤولية ليس مفروشًا وردًا ورياحين. وكان يعرف أن الشغل مع الفريق المحيط برئيس الجمهورية، وعلى رأسه “ولي العهد” النائب جبران باسيل، ليس سهلًا. ومع هذا قبل أن يتلقف كرة النار، وأن يتحمّل المسؤولية كاملة من دون تردّد. وكذلك فعل في التكليف الثاني عندما راجعه عدد من النواب، الذين رأوا أن لا بدّ من أن يستكمل المهمة التي بدأها، وهي مهمة وُصفت حينها بـ”المستحيلة”. وعلى رغم معرفته المسبقة بما كان ينتظره قَبِل المهمة، وقَبِل التحدّي.
إلاّ أنه لم يكن يتوقّع أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه. إعتقد الرجل، وبكل نيّة حسنة، أن رئيس الجمهورية سيتلقف المبادرة التي تقدّم بها إليه بنفس النية الحسنة، لكنه إكتشف عندما تمّ تسريب التشكيلة الحكومية المقترحة بأن وراء الأكمة ما وراءها من نوايا غير حسنة. لكنه لم تخطر على باله، ولو للحظة واحدة، أن من يدير الأمور من وراء الستارة لا يريد في الأساس تشكيل حكومة كاملة المواصفات.
وإكتشف أيضًا، وبعد خمسة لقاءات، أن لا إرادة بتشكيل حكومة قبل نهاية العهد. والسبب الذي يثير الكثير من العجب يكمن في التسريبات الهادفة إلى إظهار عدم دستورية جواز أن توكل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة تصريف أعمال، وأن الرئيس عون، الذي أقسم اليمين على أن يحافظ على الدستور لن يسلّم البلاد إلى الفراغ، الذي سيحصل حكمًا، وهو لذلك سيبقى في القصر الجمهوري، بـ”غير طيبة خاطر”، كما يُقال، حتى يتم إنتخاب رئيس جديد للبلاد.
وعلى رغم النفي المتكرر عن دوائر بعبدا،فهذا ما يمكن إستنتاجه من لقاء يوم الأربعاء “الأسوأ”، وهذا ما يمكن أن يُبنى عليه لمعرفة ما يُخبَّأ من مفاجآت قد تظهر تباعًا من وراء الستارة، عبر ما يُسمّى “دراسات قانونية ودستورية”، في محاولة جديدة لتبرير بقاء الرئيس عون على الكرسي الرئاسي طيلة فترة الفراغ، التي ستطول هذه المرّة أكثر من المرّات السابقة.