تُعتبر زيارة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت خلال الأسبوعين المقبلين، حاسمة على أكثر من صعيد، فهي ستحدد المسار الذي سترسو عليه المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وإمكان التوصل إلى اتفاق، أو بقاء الأمور على ما هي عليه، لتفتح المنطقة على توتر جديد. وعلى رغم الاجواء الإيجابية للمفاوضات، فإن ذلك لا يعني أن الاتفاق بات وشيكاً وقابلاً للتصديق، لكنها تؤخر التصعيد واحتمالات المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل. التوقعات تشير إلى أن هوكشتاين لن يبلّغ لبنان رداً إسرائيلياً قاطعاً حول طلبه، الذي كان تبلغه شفهياً خلال جولته الأخيرة في لبنان في 13 حزيران (يونيو) الماضي، بالخط 23 أي الـ860 كلم مع حقل قانا كاملاً، بل سيترك الأمور مفتوحة انطلاقاً من الأجواء الإيجابية التي يروجها الأميركيون بقرب التوصل إلى اتفاق، وبالتالي سيطلب من المسؤولين ترجمة موقفهم أو اقتراحهم خطياً لتسليمه إلى الإسرائيليين والعمل انطلاقاً من أوراق موقعة للوصول إلى اتفاق على قاعدة واضحة.
انتزاع الوسيط الأميركي لورقة خطية تؤكد الالتزام بالموقف اللبناني حتى لو حدثت مواجهات عسكرية أو تصعيد يمكن احتواؤه بالعودة إلى هذه القاعدة. لكن لبنان سيطالب أيضاً وفق هذه القاعدة بموافقة خطية إسرائيلية على حقل قانا وضمانات بعدم التعرض لعمليات التنقيب والحفر لاحقاً والاتفاقات مع الشركات الدولية. وفي حال تقدمت المفاوضات وفق هذا السيناريو، وحسمت الأمور بهذه الوجهة، لن يفوّت رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون الفرصة للإعلان عن الاتفاق من قصر بعبدا واعتباره انجازاً للعهد بالتكافل والتضامن مع “حزب الله” وقوته العسكرية وهيمنته التي سيستثمرها في الداخل اللبناني إلى أقصى الحدود.
الحديث عن أجواء إيجابية مرده إلى أن التهديدات المتبادلة بين “حزب الله”وإسرائيل لا تعني أن الحرب على الأبواب طالما أن الولايات المتحدة تضغط لمنعها أو على الأقل تأجيل تفجيرها لاعتبارات لها علاقة بالمنطقة وبالانشغال بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، ومردها أيضاً لاستهدافاتها وغاياتها، فالأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله ثبّت من خلال تهديداته ومسيّراته فوق كاريش معادلة محددة لترسيم الحدود لا يمكنه التراجع عنها أو تخطيها، وتفيد بأن لا استخراج للغاز الإسرائيلي من دون بدء لبنان عمليات التنقيب، وأعطى مهلة حتى أيلول (سبتمبر) المقبل للتوصل إلى حل يوافق عليه لبنان. وفي المقابل ردت إسرائيل بأنها تسعى إلى حلّ مع لبنان في شأن المناطق البحرية المتنازع عليها، محذرة من التعرض لمنشآتها في كاريش كي لا يتدهور الوضع مع لبنان. وبدا أن موقف كل من الطرفين بالتصعيد ورفع السقوف، هو لاستبعاد الحرب أقله في المرحلة الراهنة، والوصول إلى حل من خلال الوساطة الأميركية ورعايتها للمفاوضات غير المباشرة.
إذا كانت إسرائيل و”حزب الله” لا يريدان الحرب، فإن تصعيدهما هو لفرض وقائع جديدة، فالحزب إذا تمكن من فرض شروطه، يحقق انتصاراً داخلياً لبنانياً ويقدم قوته على أنها حامية للبنان، فيما إسرائيل تحقق مصلحتها بالبدء في الحفر والإنتاج من حقل كاريش بعد ترسيم الحدود، وتكرس اعترافاً لبنانياً غير مباشر بها وتنتزع ورقة منع أي تصعيد على الحدود البحرية برعاية دولية.
لبنانياً، كلما تأخر الاتفاق على الترسيم، وهو ملف مفتوح على كل الاحتمالات، كلما وصلت الأوضاع في البلد إلى حالة من الاختناق الشديد، في ظل ارتفاع منسوب الصراع الطائفي والمذهبي، ومحاولة أطراف مقررة فرض وقائع جديدة في الصيغة اللبنانية، في مقدمها “حزب الله”، والعجز عن تشكيل الحكومة والفراغ الذي يهوي بالمؤسسات والانهيار الذي يطيح بكل معالم الدولة. ويبدو استعراض قوة “حزب الله” وسلاحه في ملف الترسيم ينسحب أيضاً على الوضع الداخلي بإظهار عناصر القوة ومحاولة التحكم بالقرار وتجييرها للاعتراف به إقليمياً ودولياً أنه المقرر في الحكم والأقوى بين المكوّنات اللبنانية كافة.
يريد “حزب الله” تكريس إنجاز في ملف ترسيم الحدود والاعتراف بقوته، ونسب الإنجاز له، وتظهر تهديداته وتصعيده والمهل التي أعطاها، أن لها وظيفة واضحة في حالتي الحرب أو الاتفاق. هو يقدم جسمه كمقرر وله أجندات محددة محلياً وإقليمياً، وفي كل الأحوال يبدو مستفيداً بنسب أي انجاز له حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق ولم تحدث الحرب. لكن هذا الأمر يؤسس لمعادلة خطيرة، فالحزب لن يتنازل عن أي مكتسبات حققها، ولن تقبل المكوّنات اللبنانية الأخرى تسليمه مفاتيح البلد، ما يعني أننا مقبلون على انقسامات خطيرة، حتى لو تم الاعتراف بدور الحزب إذا تقدمت المفاوضات النووية وجرى التوصل الى اتفاق.
الواقع أن ملف ترسيم الحدود سيبقى العنوان الرئيسي خلال الأشهر الثلاثة المقبلة الحاسمة للبنان. فمن خلاله قد يتحدد مستقبل الحكومة وانتخابات الرئاسة بعد انتهاء ولاية ميشال عون أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. وفي المقابل بدا أن أي مفاوضات إقليمية ودولية ستتناول هذا الملف لارتباطه بالاستحقاقات المقبلة. لذا يبقى ملف الترسيم، يشكل نقطة عبور للملفات الداخلية الأخرى، فيما زيارة هوكشتاين ستحدد مدى التقدم الذي يحكى عنه، والأجواء الإيجابية التي يجري ترويجها، وهي زيارة قد تشير أيضاً إلى إمكان توافر ظروف إقليمية ودولية تضغط نحو الحل، وما إذا كانت هناك نوافذ لا تزال مفتوحة للتواصل الإيراني – الأميركي غير المباشر حول التفاوض النووي، أو أن الأمور ستسير نحو الانسداد أي نحو التصعيد الأمني والعسكري وحتى في الداخل اللبناني مع الانقسام الذي نشهده في البلد. ومع ذلك تبقى تصورات المرحلة المقبلة غير واضحة وضبابية، والأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات.
التوصل إلى اتفاق على الترسيم ينسحب إيجاباً على الملفات اللبنانية الأخرى، وبالتالي على التسوية أو حل مرحلي للأزمة المستعصية في لبنان، أو استمرار الانهيار الذي يؤدي إلى الفوضى وإلى حروب متنقلة قد تطيح بالهوية والكيان.