كتب نايف عازر في نداء وطن:
كلّ المؤشرات السياسية والعسكرية في الداخل الإسرائيلي تشي بأن الدولة العبرية تتجه إلى تسخين الجبهة اللبنانية، وهو ما برز جليًا في رفع وتيرة الغارات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، مع بدء العدّ العكسي لنهاية المهلة التي حدّدتها واشنطن للحكومة اللبنانية في نهاية الشهر المقبل، للانتهاء من عملية حصر السلاح في يد السلطات الشرعية فقط، في منطقة جنوب الليطاني.
مهّدت الحكومة اليمينية المتطرّفة بقيادة بنيامين نتنياهو الأرضية لتوسيع نطاق استهدافاتها في لبنان، من خلال ضخ إعلامي كبير، معززًا بتصريحات عبرية رسمية تفيد بأن “حزب اللّه” ينكبّ على إعادة بناء قدراته العسكرية، وقد عزز “الحزب” نفسه موقف تل أبيب، باستمرار تأكيد قادته، وعلى رأسهم أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، الأمر عينه. ولعلّ الأخطر كان ما كُتب في صحف إسرائيلية في الآونة الأخيرة، عن تماهٍ بين الجيش اللبناني و “حزب اللّه” بلغ حدّ التعاون، بل التواطؤ، وتردّد أن صناع القرار في تل أبيب نجحوا في إقناع الإدارة الأميركية بهذه الفرضية، وهو ما حدا بإدارة ترامب إلى إلغاء مواعيد مهمّة كانت محدّدة لقائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل في واشنطن، لينتهي الأمر بنسف زيارته برمّتها.
لا ريب في أن الولايات المتحدة تُعتبر الراعية الرسمية للجيش اللبناني منذ حوالى عقدين، وغالبية سلاح هذا الجيش، خصوصًا النوعي منه، مصدره بلاد “العمّ سام”. وهنا يعتبر أعضاء الكونغرس الأميركي أنهم في كلّ مرّة يصوّتون فيها على هبة جديدة للجيش اللبناني، تخرج أموال هذه المنحة من جيوب دافعي الضرائب الأميركيين، لذلك هم يحرصون على عدم “تبديد” أموالهم، وعلى عدم وصول السلاح الأميركي إلى أيدي “حزب اللّه”، وألّا يهدّد طبعًا هذا السلاح، إسرائيل، حليفتهم المدلّلة في المنطقة.
يتنازع الداخل الإسرائيلي تياران. الأوّل يدعو إلى اغتنام الفرصة “الذهبية” السانحة راهنًا وشن عملية برية واسعة في لبنان، للقضاء نهائيًا على قدرات “حزب اللّه”، والوصول إلى صواريخه الدقيقة المحصّنة في عمق الأراضي البقاعية، والإفادة من التماهي الكبير بين واشنطن وتل أبيب على الملف اللبناني، بما أن قاطن البيت الأبيض لن يضع أي ضوابط على نتنياهو في لبنان، بعكس ما بات يفعله في غزة وسوريا. أمّا التيار الثاني، فيطالب بمواصلة وتيرة الغارات على أهداف محدّدة في لبنان، وحملة الاغتيالات شبه اليومية لعناصر “حزب اللّه”، باعتبار أن هذا الخيار هو الأنجع، في ظلّ عدم تجرّؤ “الحزب” على الردّ على أي اعتداء إسرائيلي منذ حوالى سنة، وليقين تل أبيب أنه لن يردّ في المستقبل، ما يجعل “الستاتيكو” هذا مثاليًا بالنسبة إليها. لذلك، ستتأرجح “بلاد الأرز” في قابل الأيام بين “مطرقة” عملية برية إسرائيلية واسعة النطاق، و “سندان” استمرار الغارات شبه اليومية بوتيرتها التصاعدية.
يعتبر العقل الإسرائيلي أيضًا أنه بعد هجمات 7 أكتوبر، لن يبقى أي مكان في القاموس الإسرائيلي لأي ذراع إيرانية تسرح وتمرح في المنطقة وتهدّد الدولة اليهودية، وبما أن هذه الأذرع تهاوت تباعًا، آن الأوان للقضاء نهائيًا على “الحزب” الذي كان يوصف بـ “درة التاج” الإيرانية، والذي كان يؤرق سكان شمال إسرائيل ويسرق النوم من عيونهم. وبالنسبة إلى نتنياهو، إمّا أن ينزع الجيش اللبناني سلاح “حزب اللّه”، وإمّا ستفعل إسرائيل ذلك بنفسها.
لا شك في أن تل أبيب تتعاطى بفتور مع ملف التفاوض مع بيروت. فبعدما كان لبنان يتحفظ بشدّة حيال هذا الملف، ويعتبره من المحرّمات لسنوات عديدة، توالت مواقف رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون في الآونة الأخيرة الداعية إلى التفاوض مع إسرائيل، من دون أن تجد آذانًا إسرائيلية أو أميركية صاغية حتى الآن. وبحسب الخبراء، فإن أي تفاوض بين البلدين، مباشرًا كان أو غير مباشر، سيؤدي في حدّه الأدنى إلى كف يد إسرائيل عن مهاجمة لبنان، أو أنه سيقود إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من التلال الخمس “الحاكمة” في جنوب لبنان، التي تطلّ على بلدات ومستوطنات الشمال الإسرائيلي، وهذان أمران لا يصبّان بطبيعة الحال في مصلحة حكومة نتنياهو، التي تجهد لتجريد “حزب الله” بالكامل من سلاحه وتسجيل إنجازات عسكرية هي بأمسّ الحاجة إليها لصرفها سياسيًا في الداخل الإسرائيلي.
إذًا، بالنسبة إلى الدولة العبرية، إن أي مفاوضات تنطلق من مصالحها، لذلك هي ليست على عجلة من أمرها، بل تعتبر أن الضربات ضدّ لبنان هي تطبيق لاتفاق وقف إطلاق النار المُبرم بين الجانبين، وتريد من أي اتفاق جديد، أن يؤمّن لها شريطًا عازلًا مع لبنان، أكان أمنيًا، يُبعد عنها “كأس” صواريخ “حزب اللّه” أو ما تبقى منها، أو اقتصاديًا يحاكي “منطقة ترامب الاقتصادية” في جنوب لبنان.
