كتب أنطوان مراد في نداء وطن:
تلتقي أوساط دبلوماسية أوروبية وعربية على تنبيه لبنان من إهدار الفرص الكثيرة التي أتيحت له وما زال بعضها متاحًا، كي يسلك درب الحلول لمعضلاته الوطنية والسياسية والمالية والاقتصادية، باعتبار أنّ سوء التقدير ممنوع كما الأخطاء الناجمة عن جهل أو خوف وربّما عن تذاكٍ.
ويقول الأوروبيون، إنّ على الدولة اللبنانية، التي تظهر للمرة الأولى تماسكًا مقبولًا ووضوحًا في الرؤية، أن تعي حقيقة أنها لا تواجه مشكلات داخلية تتأثر بعوامل خارجية، كما أنها لا تواجه حالة ناجمة عن صراعات إقليمية فحسب، بل إنها في صدد التعاطي مع واقع دولي جديد للولايات المتحدة الأميركية الكلمة العليا فيه. وهذا الواقع كما يقولون، “نحن نعترف به كأوروبيين على الرغم من محاولتنا التمايز أكثر عن الأميركيين”. فواشنطن في ظل الرئيس دونالد ترامب، تتعاطى بمزيج من فائض الثقة والقدرة على المناورة وتتنقل من موقع إلى آخر بحسب مقتضيات الظروف، أو بحسب مقتضيات السوق السياسية والاقتصادية، وفق المنطق الذي يتقنه ترامب.
ولذلك، ليس للبنان أن يسعى إلى لعبة خاصة به عنوانها التأجيل والانتظار والحرص على تجنّب الفتن والمواجهات الداخلية، فهذه اللعبة مردودها سيّئ جدًّا، وسرعان ما ستولّد مشكلات إضافية بدلًا من معالجة المشكلات الموجودة أصلًا.
ولذلك، النتيجة الأولى تتمثل بتراجع لبنان كأولوية، فبدلًا من الرهان على تثبيت الاستقرار الذي يستتبعه الازدهار والاستثمار، ينكفئ المجتمعان الدولي والعربي إلى دائرة التعاطي مع لبنان كبلد ليس المطلوب منه سوى أن يلتزم عدم صدور أي تهديد مباشر منه لإسرائيل، وأن يمنع أيّ تمدّد إرهابي على أرضه، أما عدا ذلك فليتدبر اللبنانيون أمورهم بأنفسهم، إن بالنسبة لنظامهم السياسي أو لخياراتهم المالية والاقتصادية، من دون كثير نواح وإلحاح لاستجلاب المساعدات والقروض والاستثمارات.
وفي اعتقاد الأوروبيين أن الولايات المتحدة لن تتأخر في الضغط بشكل مضطرد على لبنان، كي يتماهى مع ما تعرضه لمساعدته في النهوض من أزماته. وما تعرضه هو التالي:
أولًا، اتّخاذ خطوات عملية عاجلة وأكثر جدية لحصر السلاح بيد السلطات اللبنانية، مع تحديد مهلة واضحة ولو على مراحل.
ثانيًا، إطلاق سلسلة إجراءات عملية لمكافحة التهريب على أنواعه بما يرتبط به من تبييض أموال.
ثالثًا، المبادرة إلى ورشة إصلاحية شاملة تشمل الإدارة والقضاء ومختلف القطاعات المرتبطة بالخدمات الأساسية، ومن ضمنها المحاسبة في كثير من الملفات الجدلية.
رابعًا، اتخاذ قرار واضح بالانضمام إلى مسيرة السلام والتفاهمات الإبراهيمية، أقله عبر التنسيق مع أصدقاء لبنان العرب وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية.
ويخلص الدبلوماسيون الأوروبيون إلى القول: إن خلافاتنا مع الرئيس ترامب لا تمنع حقيقة التوافق بنسبة كبيرة على ما يمكن وصفه بالشروط الآنفة الذكر. ويقول أحدهم: “ينبغي للمسؤولين في لبنان أن يدركوا أن أوروبا ما زالت تتعاطى مع لبنان بحدّ أدنى من التعاطف، لما يربطها به من وشائج تاريخية وثقافية ومتوسطية، ولذلك فهي مستعدّة لأن تسبق الأميركيين في إطلاق خطوات عملية لمساعدة لبنان عندما يلتزم المطلوب، والذي يصبّ في مصلحته كدولة وشعب”.
أما الأوساط الدبلوماسية العربية فتلفت إلى أن التعاطف العربي قائم لكنه بات مشروطًا ولم يعد مجرّد تعاطف تلقائي يتبلور خطوات عملية بسهولة. فالواقع أن المملكة العربية السعودية هي التي تقود المجموعة العربية في مسألة مقاربة القضية اللبنانية، وهذا يعني أنه يمكن للإمارات العربية أو لقطر أو للكويت تقديم مساعدات معيّنة، لكنها تبقى محدودة وأقرب لرفع العتب، طالما أن المملكة لم تقل كلمتها في هذا الشأن.
وتنصح الأوساط نفسها السلطة اللبنانية حكمًا وحكومة بأن تعيد قراءة معنى الانتماء العربي لا سيّما في هذه المرحلة الدقيقة، فالبوّابة السورية تغيّرت ومع ذلك لا بدّ من أخذها في الاعتبار. كما أن المملكة لم تعد في وارد تقديم أي جوائز ترضية أو استرضاء لأي كان، بل إنها تريد كما الكثير من الدول العربية أن يعود لبنان إلى ذاته وإلى منابع الطائف وهوامشه، من دون زيادة أو نقصان، لأن لبنان النموذج هو مصدر ارتياح وغنى، وسيبقى شرفة المشرق على الغرب، وخصوصاً إذا ما تمكّن من استعادة دوره الريادي على أكثر من صعيد.
وما لا يقوله العرب، يقوله الأوروبيون الذين يدعون لبنان إلى الاتّعاظ من تجربتي قبرص ودبي. فقبرص لا تملك موارد أساسية وهي أفقر من لبنان بدرجات، لكنها نجحت في مقاربة المعايير الأوروبية وفي ضبط ماليتها وتطوير اقتصادها المرتكز على السياحة والخدمات، وباتت موضع ثقة كبيرة ومضطردة للدول الغربية التي تعتمدها كنقطة تواصل وانطلاق في الوقت عينه للكثير من المهمّات والأنشطة.
أما دبي، وهي الإمارة التي تملك حقول نفط وغاز والتي تُعتبر محدودة نسبيًا بالمقارنة مع إمارة أبو ظبي، فقد تمكنت من تطوير اقتصادها وخدماتها حتى أصبحت مركزًا عالميًا يحتل المرتبة الأولى على صعد عدة. ولذلك ليس للبنان إلا أن يستعيد سريعًا دوره عبر استعادة سيادته ونموذجه الخدماتي الرائد، حتى يحجز الموقع الذي يستحقه، مع الإشارة إلى أن الأميركيين والأوروبيين والعرب يريدونه كذلك، على أن يقتنع اللبنانيون أنفسهم بالتّجرّؤ على خوض التحدي.