ما برح “حزب الله” منذ اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، يعتصم بمبدأ الاستغراق في الغموض، ولا يفصح عن مستقبل وضعه الداخلي من جهة، ولا يميط اللثام عن توجهاته المستقبلية من جهة أخرى، حتى إن ثمة من يتهمه بأنه ترك قاعدته المصدومة في حال إرباك.
ليس بالضرورة أن يكون الأمر عائدا فحسب إلى تعلق جمهور هذه القاعدة بشخص نصرالله الذي أدى دورا استثنائيا أكبر من الحزب نفسه، بل إن لإشهار الوفاة والنعي عند الطوائف الإسلامية أصولا شرعية يتعين اتباعها، تتمثل خصوصا في التعجيل في مواراة الميت لكي يرتاح الراحة الأبدية.
وبات معلوما أن ليس عند قاعدة الحزب إلا الأنباء التي توالت عن اغتياله، وقد حسمها النعي الذي أصدرته قيادته في اليوم التالي. ومن يومها غابت عن تلك القاعدة أي معلومات تتصل بأمرين يكتسبان صفة الإلحاح:
– مصير جثمان السيد نصرالله، وخصوصا بعدما سرت معلومات تفيد أنه ما زال سليما لأن الوفاة نجمت عن اختناق.
– من يكون خليفته في رأس الهرم القيادي للحزب؟
حيال الأمرين، قيل ابتداء إن ثمة رأيين يعتملان داخل القيادة، أولهما ينادي بنقل الجثمان إلى مقبرة السلام في النجف ليوارى إلى جوار الإمام علي، أو إلى كربلاء ليدفن قرب ضريح الإمام الحسين.
وينطلق أصحاب هذا الرأي من خلفيتين، الأولى أن السيد نصرالله أوصى بأن يكون مثواه الأخير في العراق، والوصية عند الشيعة مقدسة وواجبة التنفيذ مهما كلف الأمر. والثانية أن الظروف الحالية المعروفة الناجمة عن استمرار الغارات الإسرائيلية على الضاحية والجنوب تجعل من الصعوبة بمكان ضمان تشييع لائق للجثمان، علما أنه لا يمكن في أي حال إقامة جنازة متواضعة لرجل بمكانة نصرالله، وليس متاحا في المقابل تنظيم تشييع حاشد له.
وفي كل الأحوال، عند الحزب مسوّغات فقهية تبيح له أن يوفر للميت تشييعا نهائيا عاجلا أو يؤمن دفنا موقتا على هيئة وديعة يمكن استعادتها لنقلها إلى المقام الأخير.
وإذا كان الحزب ما زال يأخذ وقته لكي يحسم أمر دفن سيده ورمزه الأبرز، وصانع المكانة الكبرى له منذ تسلم قيادته، فإن ثمة معلومات تتحدث عن أن نهج الاستغراق في الغموض الذي يمارسه الحزب حيال دفن جثمان سيده ينطبق أيضا على تسمية خليفة له.
المعلوم أن بعض المتابعين اعتبروا فور نعي نصرالله أن المسالة محسومة، مشيرين إلى أن خليفته الشرعي هو ابن خالته السيد هاشم صفي الدين الذي يشغل منذ أكثر من ثلاثة عقود المنصب الثاني في الحزب، أي رئيس المجلس التنفيذي. فضلا عن ذلك، كان للرجل المعروف بشدته وسلوكه الصارم حضور منبريّ لافت.
بناء عليه، كان الجميع منتظرا المناداة العاجلة بمبايعة السيد صفي الدين بالولاية على قيادة الحزب قبيل دفن نصرالله، ولكن ما حصل أن كلا الأمرين المنتظرين تأجل تحقيقهما. وما زاد في عتمة المشهد وغموضه أن قيادة الحزب لم تقدم تفسيرا مقنعا يبدد الغموض ويقطع دابر التكهنات، لهذين التأجيلين. وواقع الحال هذا دفع المتابعين إلى استنتاجين:
– ان الحزب قرر العودة مجددا إلى شرنقة الغموض، أي إلى طور النشأة والتكوين، والذي استغرق عشرة أعوام بعيدا من الأضواء، إلى أن أزيح أمينه العام الأول الشيخ صبحي الطفيلي وانتُخب السيد عباس الموسوي خلفا له.
– الواقع المستجد يعطي الحزب فرصة رسم معالم مرحلة ما بعد اغتيال نصرالله، وهذا يعني أنه ما زال في طور الرسم وكيفية سد الفراغ الناجم، وأنه مضطر إلى أن يفعل ذلك بعيدا من تأثيرات اللحظة وضغوط الحدث الجلل