يعتبر لبنان من أثرى الدول العربية بالمياه، لذلك يطلق عليه بلد المياه في منطقة الشرق الأوسط لانفراده بموقع جغرافي مميّز، كونه يضم حوالى 40 مجرى مائيا. ومع ذلك تتربص به ازمة جفاف في عز الحر ولهيب شمس الصيف الحارقة. ولا ينفك يتذرع المعنيون في هذا القطاع بالانقطاع المتكرر للكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات، ناهيكم عن السرقات التي طالت معامل الضخ، وظهور بدعة جديدة للموظفين تتمثل بجمع الرِشا.
“اكرامية” على عين الدولة
على خط مواز، كانت أوقفت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان عاملا في توزيع المياه عن العمل، بعدما اتضح انه طالب بمبلغ مالي كبير مبتزا مواطنين في منطقة سن الفيل. وفي هذا السياق، علمت “الديار” ان موظفا يدعى ش. ص. يعمل في شركة المياه قبض مبلغا كبيرا من مواطن في منطقة المطيلب ليؤمن له المياه بصورة دائمة ، ضاربا عرض الحائط حق الجيران في الحصول على حصتهم، من خلال وضعه عياراً قفل يمنع وصول المياه الرسمية الى المباني الأخرى.
وكان كشف أحد المواطنين لـ “الديار” ان المحسوبية تلعب دورا كبيرا في توزيع مياه الشفة. لافتا الى ان البعض يريدون الاستفادة من خدمات المؤسسة دون دفع ما يتوجب عليهم من اشتراكات، من خلال رشوة موظفين يعملون في مؤسسة الدولة، وهذا الامر يقضي على عدالة التوزيع. واضاف يوجد شريحة من المواطنين ذات الدخل المحدود تتقيد بالقانون، وتسدد ما يتوجب عليها من رسومات ومبالغ مادية تصل الى 250 $ ولا تأتي المياه الا ندرة.
شبكات الامدادات “بالية”
يعاني اللبنانيون منذ اسابيع من انقطاع في المياه ضمن شبكات الامدادات الرئيسية في البنية التحتيّة، وقحْط في الصنابير المنزلية على مدار أيام الأسبوع. والسبب في هذا الجدب يعود الى سوء الإدارة في القطاع العام، مما سهّل عملية التلاعب بصحة الناس من خلال الخزانات غير الرسمية، ومعبّأة بمياه غير مأمونة المصدر، فازدهر سوق الصهاريج بسبب التقنين القاسي لمياه الدولة، في ظل حاجة الناس الشديدة لها في هذا الجو الحار.
وفي هذا الإطار، قال داني وهو من سكان منطقة بيروت لـ “الديار” ان الواقع المائي في هذه المنطقة بات لا يحتمل، لافتا الى انه يعاني من انفصال دائم لمياه الشفة في منزله، هذا الامر يدفعه الى شراء حاجته من الماء، أي ما يعادل أكثر من 10 صهاريج شهريا سعر كل صهريج 30 دولارا مقابل 3000 ليتر.
الصهاريج “ملوثة”
على مقلب متصل، ظهرت الصهاريج للمرة الأولى في السبعينيات، وراهناً تفاقمت الازمة بسبب البنية التحتية، ما ضاعف من نقص المياه كمّاً ونوعاً ، في ظل ضائقة اقتصادية شديدة تعاظمت مع دولرة الأسعار وانهيار العملة الوطنية، وسوء الإدارة في القطاع العام ومؤسسات الدولة. هذه العوامل مجتمعة افقدت الشبكة ما يصل الى أكثر من 55% من المياه، بسبب التسرّب جراء السرقة والاهتراء في القساطل، ما زاد من امكان خطر تلوث المياه نتيجة تسلل مياه البحر واختلاطها بمياه الصرف الصحي، الى جانب الانقطاع في امدادات المياه الصحية السليمة من انابيب البنية التحتية الرئيسية.
فاضطر المواطنون مجبرين التوجّه الى مصادر غير رسمية لتأمين كفايتهم ،معتمدين على الصهاريج المعبأة من الآبار الارتوازية ومياه البحيرات والانهر. صحيح ان هذه المصادر قد توفّر الاحتياجات المائية اليومية للناس، الا انه يترتب عليها آثار صحية وبيئية جسيمة على الصحة العامة.
خطر صحي يهدد أصحاب الدخل المحدود
هذا، وتتعرض اغلبية الاسر اللبنانية ذات الدخل المنخفض لخطر الإصابة ببكتيريا القولون والاشريكية القولونية. ويرتبط تلوث المياه وتردي خدمات الصرف الصحي بحسب الدكتور هادي مراد، بانتقال امراض الكوليرا والاسهال والزحار والتهاب الكبد A والتيفوئيد وشلل الأطفال. وقال لـ “الديار” يعرّض انعدام المياه الصالحة للاستعمال والشرب او عدم توافرها بالقدر الكافي، صحة الافراد الى مخاطر كثيرة، لأنها قد تكون خاضعة للتلوث الكيميائي الذي يشتمل على الزرنيخ والفلوريد في المياه الجوفية». أضاف «من المرجح ان يكون مستوى المواد الكيميائية الأخرى، مثل الرصاص مرتفعا في مياه الشفة نتيجة شح هذه المواد من مكونات شبكة الضخ عند ملامستها مياه الشرب.
واعتبر ان الهروب من الملوثات التي تحدق بالمياه بات مهمة مستحيلة في لبنان، بسبب غياب الرقابة وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، مع دولرة كافة الخدمات بما فيها خدمة تعبئة المياه من الصهاريج، التي يدور حولها علامات استفهام كثيرة لجهة نظافتها وصلاحيتها، والمصدر الذي تعبئ منه، وإذا كانت تخضع لفحص من قبل الوزارات المعنية. لافتا الى ان هذه الأمور تدفع المواطنين الى اللجوء لبدائل ميسّرة ولكنها ليست آمنة وغير صحية».
تسمم
وفي سياق متصل، علمت “الديار” ان عشرات المواطنين الذين يقطنون بالقرب من مجرى نهر الليطاني أصيبوا بتسمم جراء استخدامهم مياها ملوثة. والهلع الاكبر في حال كان يتم ري المزروعات من هذه المياه، لان المنتوجات الزراعية البقاعية منتشرة في كل السوق اللبناني مما قد يفاقم الازمة.
مياه الدولة ليست أفضل
من جهة أخرى، فان المياه التي تضخها الدولة أيضا لا تتمتع بالأمان، ما يعني ان مياه الصهاريج ومياه الشفة الرسمية غير مأمونتين. ووفقا لإحصائية مقتصرة قامت بها “الديار” شملت عدة مناطق لبنانية، تبين ان 75% من الاسر تعتمد على تعبئة المياه من الصهاريج، ما يعني ان هذه العائلات تدفع من 7 الى 10 اضعاف ما تدفعه للدولة.
في الخلاصة، أسباب تلوث المياه عديدة نتيجة التعديات على شبكات المياه. وأصحاب بعض الخزانات يقومون بسرقتها وبشفطها عبر مولدات سحب المياه، ليعاد بيعها للمواطنين بسعر مضاعف وبالدولار، او بحسب سعر صرف الدولار في السوق الموازية. وبهذا يدفع المواطن للدولة لقاء بدل “اللا خدمة” وللصهاريج التي تسرق مياهه. وهذا يؤدي الى تلوث المياه “المشفوطة” بسبب الطرق غير الآمنة اثناء سحبها، واحتكاك المياه بالإمدادات غير الشرعية والبنى التحتية المهترئة وغير الصالحة حتى للاستعمال، مما يسمح بدخول الملوثات الى المياه لتصل الى المستهلك متكدرة.