كتب أنطوان العويط
ترجّل صديقي رجا مرقده عن جواده الأبيض.
لا تعباً، فهو لم يأبه يوماً بشدّة، ولا أيضاً بزمهرير. ولم يكن يأساً، فلطالما بالعصافير هزم الظلام. وليس استسلاماً، فهو الصَلْب المحارب المناضل بصمت، وهو المحبّ في عالم مشغوف بالجريمة حتى الثمالة.
قاوَمَ صديقي رجا الموت بفروسيّةٍ نادرة. بجرأة وإباءٍ وبطولة فعل.
لم يخشاه لحظة. لم يتلمّس شفقة ولا مواساة. بالصبر كان جسده النحيل يتحدّاه، وبالأمل والبسمة والنهفة الرقيقة، كان يواجه ذلك المهرول المتسلّل محاولاً سرقة الأحلام.
على سراط العمل الجاد والمحترف والقيادة الخادمة وبمسؤوليّة إجتماعيّة، كان قد حلّ في القلب منذ التقينا هنا في لبنان وهناك في الأقطار العربيّة، في مهام أوكلتنا بها المؤسّسة الأم “اندفكو”، سنوات طويلة قبل أن يعود ويجمعنا ” مشروع وطن الإنسان”.
هنا وهناك التقينا على الكثير. على العطش إلى الحرّية، وإلى اللاحدود واللانهاية واللاختام. إلى بيدر حنطة وحبّةِ قمح لطيورِ وطن الربيع. إلى الإلفة والقبول والحضور والإنسان الإنسان، وكلّها أعطّرت دهشة الجنائن إلى الألوان.
وهو…كان طيّباً وكريماً بلا سقف. على ابتسامة من نجمٍ ساحر مع يدٍ مفتوحةٍ على رحابة الروح. كان رفيقاً عطوفاً هنيّاً ونموذجاً للرضا. برهافةٍ ونبل خُلِقَ ليكون كرْماً.
لا أبكيكَ يا رجا، بل أشفق على أحوالي في عالم قاتل لامتحان الأحرار والأبطال ولتجارب الحلم والحبّ. ويا رجا، ليس حزناً وميض الدمعة في أعين جمْع من أحبّكَ، وأنا لا أملك قطرة ندى أمسَحُ بها وجوههم النازفة. وليس كآبة، لأنّه بالعشق تحمل سفرك إلى مرفأ الهواء لتسهر مع الله.
لكن أكثير على العين تؤنس وحشتها إلى وجهِ من أحبّت بالدمع؟ وهل كثير على القامات تفتقد الكتف التي كانت تتّكئ عليه؟
سأقولُ للجميع هنا إنّكَ سعيدٌ حيث أنتَ. لعائلتك ومحبّيك. لأسرة اندفكو، لنعمة افرام، للزميلات والزملاء، وللمجلس التنفيذيّ ل”مشروع وطن الإنسان”… فأنت تعلم جيّداً وهم ونحن وأنا، أنّ الحياةَ مغلقةٌ في لبناننا، وأنّ النسيم مغلقٌ أيضاً. لكنّ وقف الله على الأرض ولو كان مسكوناً بكمّ كثيف من الخيبات، لن تركعه الجراح لأنّها توأمه، وسينهض لا محالة.
وأنتَ، على الرغم من جهنّم السواد والجوع والظلم والهجرة في وطننا، ستضيئ جنبات هذه الروابي والتلال والجبال بالأمل والرجاء، بأوراقٍ من قلوبِ الصديقات والأصدقاء والعائلة التي لا يقوى عليها موت.
وها أنّنا نناجي نبع المحبّة ينعم عليك بكثافةٍ من ضوءٍ محيّاه، وبالهناء يفرش لكَ نومك الأخير.
أنت يا رجا لم تخسر المعركة. لقد ربحت قلب الله.
إلى اللقاء أيّها الصديق.