شكّل القطاع المصرفي لعقود ركيزة رئيسية للاقتصاد اللبناني، وتمكّن من جذب الودائع ورؤوس الأموال، وبلغت قيمة الودائع الإجمالية في ذروتها أكثر من 150 مليار دولار قبل عام من بدء الأزمة المالية والاقتصادية عام 2019.
الا ان المشهد بعد تشرين 2019 تغيّر كلياً على وقع الانهيار الاقتصادي حيث فرضت المصارف قيودا مشددة على عمليات السحب بالدولار ومنع التحويلات الى الخارج، الأمر الذي جعل المودعين عاجزين عن التصرّف بأموالهم خصوصاً بالدولار، في حين فقدت الودائع بالليرة قيمتها مع انهيار قيمة العملة المحلية وتراجع احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان.
وشددت خطة التعافي التي وضعتها الحكومة على إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة الخسائر التي تكبدها القطاع المالي بشكل عادل ومنصف.
وتردد في الآونة الأخيرة ان مصرف لبنان ينوي حسم بعض الملفات المصرفية سواء أكانت المصارف المعنية المُحالة إلى الهيئة المصرفية العليا، أم التي تعاني من قصور ومؤشرات سلبية في السيولة.
ومن بين القرارات التي قد تتخذ تعيين مدير مؤقّت على هذه المصارف لتصفيتها، أو إمهالها فترة زمنية لا تتجاوز الأسبوعين لتسوية أوضاعها.
وعُلم ان 5 مصارف تعاني من أزمة سيولة محورها الأساسي المؤونات بالعملات الأجنبية المترتبة عليها وان ثمة قرار بتصفية أحد المصارف، فكيف سينعكس هذا الأمر على القطاع المصرفي المُنهك أصلاً وما مصير أموال المودعين في هذه المصارف في حال تمت تصفيتها؟
خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي يوضح أنه “في لبنان يوجد 58 مصرفا ومن الصعب جدا استثناء أي مصرف والقول انه لا يعاني من أزمة سيولة، فكل المصارف تعاني من أزمة سيولة سواء بالدولار أو بالليرة اللبنانية اما نتيجة طبيعية للانتكاسات الاقتصادية أو نتيجة سياسات السلطة النقدية”.
وقال فحيلي في حديث لـ “لبنان 24”: “إذا اردنا تقييم رأسمال المصارف على سعر الصرف الناتج عن التداول الحر الذي يتأرجح اليوم ما بين 35 والـ 40 ألف ليرة معظم رأسمال المصارف لا يكفيها”. وتابع: “عندما نتكلم عن رأسمال المصرف الكافي يعني ان يكون لديه رأسمال لامتصاص الخسارة الناتجة عن توظيفاته ورأسمال ليتمكن من تمويل انخراطه بالدورة الاقتصادية وان يكون لديه أيضا الرأسمال الوقائي ليكون بمأمن من أي اضطرابات اقتصادية قد تنتج كما حصل نتيجة الحرب بين أوكرانيا وروسيا، إضافة إلى وجود سيولة لتأمين طلبات الزبائن”.
ولفت إلى ان السيولة التي تتأمن اليوم للمصارف تتأمن من قبل مصرف لبنان بالليرة اللبنانية من خلال طباعة العملة وبالدولار من خلال اللعب بالسوق” .
وأوضح فحيلي ان “المصارف الـ 5 التي تم الحديث عن تعثرها وإمكانية تصفيتها هي مصارف لم تلتزم بأي تعميم صادر عن مصرف لبنان سواء التعميم رقم 151 أو الـ 158″، مشيرا ً إلى ان “أحد المصارف المعنية لم يمتثل لإجراءات الحيطة والحذر لمكافحة تبييض الأموال”.
وشدد على انه “من الصعب تقييم المصارف ولكن الجهة صاحبة الاختصاص هي لجنة الرقابة على المصارف وهي تعتمد على التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 154 لاجراء هذا التقييم وبعد إبرام الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي ووضع يده في أحد الشروط على 14 مصرفا أصبح اهتمام لجنة المصارف كيفية تلبية طلب صندوق النقد بهذه المصارف الـ 14 وليس الالتزام بالمواد أو بأحكام التعميم 154” .
وأضاف فحيلي: “باعتراف جمعية مصارف لبنان لم تلتزم كافة المصارف بأحكام التعميم 154 لجهة زيادة رأسمال أو زيادة الأرصدة لدى المصارف المُراسلة بنسبة 3% من حجم ايداعاتها بالعملة الأجنبية، ولهذا السبب فان وضع القطاع المصرفي اليوم بشكل عام هو محرج”، واعتبر ان “الممر الإلزامي لإعادة الحياة للقطاع المصرفي يجب ان يكون من خلال تطبيق أحكام التعميم رقم 154 وليس الالتزام بالشرط المسبق لصندوق النقد الدولي والتركيز فقط على الـ 14 مصرفا الذي يعتقد الصندوق ان باستطاعتها الاستمرار بخدمة الاقتصاد اللبناني.
ورأى فحيلي ان “المعلومات التي ذُكرت عن المصارف الـ 5 قد تكون صحيحة ولكنها لا ترسم صورة القطاع المصرفي بقدر ما تتحدث عن مصارف معينة “.
ماذا عن مصير أموال المودعين ؟
في هذا الإطار، يشير فحيلي إلى ان “كل السيولة التي تدفعها المصارف بالأوراق النقدية أي الطريقة التي يطلبها المودعون يؤمنها مصرف لبنان سواء أكانت كاش بالدولار او باللبناني”، مضيفا ان “المصارف التي عززت أرصدتها عند المصارف المُراسلة تستطيع تلبية حاجات المودعين بالنسبة للتحاويل إلى خارج لبنان من الحسابات “الفريش” او الايداعات النقدية التي يقومون بها”.
وطمأن فحيلي من ان “وضع اليد على أي مصرف يجب الا يخيف المودعين لأن الخيارات الموجودة بيد مصرف لبنان هي تعيين مدير مؤقت لإدارة المصرف يموّل السيولة لتلبية حاجات سحوبات المودعين”.
وتابع: “هناك نموذجان حصلا في لبنان على الرغم من ان الظروف تختلف وهما تعرّض “البنك اللبناني الكندي” للعقوبات الأميركية حيث انتقلت كل الحسابات التي كانت فيه إلى مصارف أخرى ولم يحصل مشكلة كبيرة في ما يخص تلبية حاجات الزبائن، والنموذج الثاني هو “جمال ترست بنك” عندما تعرّض للعقوبات الأميركية وضع مصرف لبنان وصياً عليه ولم يحدث أي انقطاع بتلبية سحوبات المودعين”، وتابع: “الحالة الوحيدة الصعبة والتي استبعد ان تحصل حاليا هي نموذج بنك “المدينة” الذي حصل فيه حالة إفلاس وضوابط كثيرة على السحوبات وتم وضع برنامج للسحوبات يتناغم مع تسييل موجودات المصرف” .
وأضاف: “بظل وجود ضوابط قاسية على السحوبات لا أعتقد انه سيحصل مشكلة بوضع اليد على أي مصرف حيث يستمر مصرف لبنان بتأمين السيولة ويستمر المودعون بالتوجه إلى فروع المصرف واستخدام الصراف الآلي والاستفادة من السحوبات الاستثنائية التي يؤمنها اليوم.
واعتبر فحيلي ان “أي توجه من قبل السلطة النقدية لاتخاذ خطوات إصلاحية سيكون لها انعكاسات إيجابية على وضع القطاع المصرفي في لبنان”.
ولا بد من التذكير ان قطاع الخدمات المالية في لبنان شكّل قرابة 9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018.
وبلغ حجم القطاع المصرفي في وقت الذروة 3 أضعاف الناتج الإجمالي المحلي، وكان معدل نموّه يعادل 3 أضعاف معدل نمو الاقتصاد، ووسّعت مصارف كبرى نطاق عملها الى خارج لبنان وصولاً الى أوروبا وافريقيا.