كتب إيلي القصيفي في أساس ميديا
سيدخل لبنان في لحظة توقيع اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل مرحلة جديدة لن تكون عناوينها اقتصادية وحسب، بل سياسيّة وأمنيّة أيضاً. فحزب الله الذي ركّز في أدبيّاته طوال الفترة الماضية على أنّ استخراج لبنان للغاز سيكون الحلّ لأزمته الماليّة والاقتصادية لم يفعل ذلك كطرف محايد في هذا الملفّ مثل سائر الأحزاب اللبنانية، بل إنّ تركيزه على هذه المسألة كان تركيزاً ذا أهداف سياسيّة، بمعنى أنّ الحزب يربط تحقيق هذا الإنجاز للبنان به هو لا بالدولة، ولذلك فهو سيسعى بأقصى طاقاته إلى تثميره سياسيّاً في الاستحقاقات المقبلة.
على هذا النحو يُعطي الحزب معنى سياسيّاً لاتفاق الترسيم يفوق معناه الاقتصادي الذي يصعب معرفة حدوده منذ الآن، باعتبار أنّ المدّة الفاصلة عن بدء استخراج لبنان للغاز ودخوله السوق العالمية طويلة جداً بالمقارنة مع إسرائيل التي تستعدّ لبدء استخراج الغاز من كاريش، وهذا سببٌ أساسيّ في استعجال الأميركيين توقيع الاتفاق بين لبنان وإسرائيل بالنظر إلى حاجة أوروبا إلى مصادر طاقة بديلة عن المصادر الروسيّة. ويمكن فهم هذا الاتّفاق بوصفه باباً جانبيّاً قد فُتِح بين طهران وواشنطن في خضمّ المفاوضات النووية بينهما.
إدعاءات الحزب
بيد أنّ ما يهمّ الحزب في هذه المرحلة هو الظهور بمظهر مخلّص لبنان من أزمته الاقتصادية، وهذا هدفٌ أساسيّ من أهداف تسهيله اتفاق الترسيم. وليس قليل الدلالة في هذا السياق بدء الأوساط الإعلامية والسياسية القريبة من الحزب تصوير الاتّفاق على أنّه ثالث إنجازاته الوطنية بعد تحرير الجنوب في العام 2000 وقتال المنظّمات الجهاديّة في جرود عرسال في صيف العام 2017 الذي انتهى بعقد تسوية معها قضت بنقل عناصرها إلى البادية السوريّة.
ليس قليل الدلالة أيضاً أنّ الحزب يحاول دائماً التذكير بأنّه لم يوظّف إنجاز التحرير في العام 2000 في المعادلة السياسيّة الداخلية، وهو عندما يفعل ذلك يحاول إظهار الأمر كما لو أنّه زهدٌ من قبله في السلطة فيستحضر من دون الكثير من الدقّة التاريخية تسلُّم المقاومة الفرنسية للحكم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بينما الواقع أنّ الوصاية السورية على لبنان في وقت انسحاب إسرائيل منه كانت تحكم المشهد السياسي وتوازناته، وبالتالي فإنّ حدود دور الحزب في السلطة كانت مرهونة بالإرادة السورية أوّلاً.
أمّا معركة “فجر الجرود” فإنّ الحزب وظّفها إعلاميّاً وسياسيّاً لتأكيد نفوذه وسطوته في المشهد الداخلي. لكنّ هذه المعركة حصلت أصلاً في وقت كان الحزب قد رسّخ حضوره الحاسم في المعادلة السياسيّة، وتحديداً منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وهو انتخاب جاء نتيجة تعديل موازين القوى لا داخلياً وحسب، بل إقليمياً أيضاً باعتبار أنّ عون انتُخب في لحظة سوريّة أيضاً إثر سقوط مدينة حلب بيد النظام السوري والميليشيات الإيرانية نتيجة أمرين: التدخّل الروسي في الحرب السوريّة، وتوسّع الميليشيات تلك إثر توقيع الاتفاق النووي في العام 2015.
الغلبة واستثماراتها في السياسة والاقتصاد
لكنّ مسار الغلبة هذا عكّره الانهيار الاقتصادي في لبنان الذي أربك الحزب وجعله في موقع دفاعيّ عن إنجازاته السياسية، سواء في انتخاب رئيس للجمهورية حليف له أو في حيازة الغالبية النيابية في العام 2018 أو في تشكيل حكومات له فيها أرجحيّة سياسية، حتّى إنّه في مرحلة من المراحل حاول التنصّل من الحكومات المحسوبة عليه من خلال القول إنّ حضوره فيها مساوٍ لحضور أيّ من القوى السياسية الأخرى. وسعى أيضاً أكثر من مرّة إلى تظهير رغبته في تشكيل حكومة وحدة وطنية لكي يحمي نفسه من الاستهداف السياسي باعتبار أنّ الحكومات التي فيها غالبيّة له ولحلفائه عاجزة عن معالجة الأزمة.
لذلك يريد الحزب اتفاق الترسيم لتعويم نفسه داخلياً. أي أنّه يريد الآن وأكثر من أيّ وقت مضى توظيف هذا الاتفاق في المعادلة السياسية الداخلية على قاعدة أنّ ما حقّقته “المقاومة” للبنان من خلال هذا الاتفاق لا يمكن إلّا أن يكون له مردود سياسيّ للحزب في كلّ الاستحقاقات المقبلة، وأهمّها انتخابات رئاسة الجمهورية. وهذه نقطة أساسية يجب البناء عليها لقراءة هذه الانتخابات باعتبار أنّ الحزب يريد البدء بقبض ثمن الاتفاق سياسيّاً بدءاً منها.
وهذا أمرٌ سيكون حاسماً في الهويّة السياسية للرئيس الجديد الذي يريده الحزب موالياً له في العمق، أي ملتزماً بخطوطه الحمر وإن لم يكن من المعروفين بقربهم التاريخي من “خطّ المقاومة”.
هوية الرئيس والموافقات المُعلقة
إذّاك فإنّ الحديث عن رئيس اقتصادي، أي رئيس ذي خلفيّة اقتصادية لا سياسية، لا يستقيم ما دام الحزب يريد أن يُخضع أيّ رئيس جديد لشروطه وإلّا فلن يسهِّل انتخابه، وما دام الموقف العربي وبالتحديد السعودي من الرئيس العتيد سيكون تبعاً لهويّته السياسية لا لخلفيّته المهنية، أي أنّه حتّى لو انتُخب رئيس بخلفيّة اقتصادية فهو سيتحوّل منذ لحظة انتخابه رئيساً سياسيّاً لأنّ مجرّد انتخابه يعني قبوله بشروط الحزب، وهو ما سيحدّد تالياً الموقف العربي منه باعتبار أنّ ما أعلن حتّى الآن من الموقف السعودي بشأن رئاسة الجمهورية يؤكّد رفض المملكة لمرشحّ موالٍ للحزب.
لكن وإن كان الحزب اللاعب الداخلي الأهمّ في الاستحقاق الرئاسي إلّا أنّه ليس اللاعب الوحيد، والأهمّ أنّ هذا الاستحقاق لن يحصل وفق مسار داخلي وحسب، بل إنّ العوامل الخارجية حاسمةٌ فيه وربّما تفوق بأهميّتها عوامله الداخلية، ولذلك فإنّ الخريطة المتحرّكة للتوافقات والتقاطعات الدولية والإقليمية بشأن رئاسة الجمهورية قد تنجح في توفير مظلّة إقليمية ودولية للرئيس الجديد، لكن ليس إلى الحدّ الذي يمكن معه اعتبار هذه المظلّة ثابتة وستستمرّ طوال العهد الجديد.
نقص فادح
ولعلّ وتيرة ومآلات الحوار السعودي – الإيراني ستكون من أكثر العوامل الخارجية المؤثّرة في الانتخابات الرئاسية، لا لناحية انتخاب الرئيس وحسب، بل الأهمّ لناحية توفير مناخ سياسي واقتصادي للرئيس الجديد يخوّله الحكم في ظلّ حاجة لبنان الماسّة إلى دعم ماليّ يتّضح يوماً بعد آخر أنّه لن يكون متوافراً إلا من دول الخليج العربي، وما المعمعة التي رافقت زيارة الوفد اللبناني لطهران للبحث في هبة الفيول الإيرانية إلّا دليلٌ على صعوبة تعويض أيّ طرف إقليمي أو دولي للدعم العربي للبنان.
لكنّ ذلك كلّه لا يبدّل في واقع أنّ السمة الأبرز في الهويّة السياسيّة للرئيس الجديد ستكون استعداده للرضوخ للخطوط الحمر الثابتة والمتحرّكة التي يحدّدها الحزب، وهو ما يجعل من الصعب توقّع توافق داخلي وخارجي قويّ ومتماسك حوله. فحتّى لو حصل توافق معيّن حوله في لحظة انتخابه فهذا لا يعني أنّه سيرافقه طوال عهده، والأرجح أنّ أيّ تسوية إقليمية – دولية حول الرئاسة ستكون سمتها الرئيسية اختبار دول رئيسية فيها لقدرة الرئيس الجديد على رسم حدود واضحة بين شروط الحزب وشروط الدولة، وهذه مهمّة تتطلّب رئيساً “قويّاً” غير موجودٍ بالضرورة!