يبدو أن استقرار سعر صرف الدولار في السوق السوداء عند 38 ألف ليرة الاسبوع الماضي سيصبح في «خبر كان». فاذا استأنف الدولار تحقيق وثبات يومية بين 500 وألف ليرة ستتحقّق توقعات بنك أوف أميركا التي أعلنها منذ عامين بوصوله الى 47 ألف ليرة لبنانية، رقم كان وقتها بالنسبة للبنانيين ضرباً من الخيال.
لم يعد هذا التوقّع بعيداً عنا مع رفع مصرف لبنان يده عن الدعم المتبقي في موازاة نزيف مستمر للإحتياطي الإلزامي، وفي ظلّ الطريق شبه المسدود الذي يلوح بالنسبة للإستحقاقات المحورية مثل رئاسة الجمهروية، وتشكيل الحكومة، فضلاً عن توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي الذي يبدو انه لن يتحقق في الأشهر المقبلة بسبب البطء الشديد في إقرار القوانين والخطط المطلوبة للسير على سكّة الإصلاح.لا يختلف اثنان على أن ارتفاع سعر الصرف سيتأثر بالتخبط الحاصل على الساحة السياسية ولما لذلك من تداعيات على الساحة الإقتصادية والمالية والنقدية.
خاطر: عوامل الصعود متوافرة
ويعتبر الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفسور مارون خاطر أن لارتفاع سعر صرف الدولار أسباباً عدّة أهمها:
«أولاً، شحّ الدولار في البلد وعدم دخول تدفقات نقدية جديدة اضافية بالعملة الصعبة، مقابل طلب متزايد عليه خصوصاً لاستيراد المواد الأساسية لا سيما المحروقات بعد انسحاب منصة «صيرفة» من تمويل جزء من استيراد البنزين، وبالتالي زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء من قبل المستوردين والتجار.
ثانياً، غياب المعالجات الجدِّية، ما يجعل من هذا السعر إنعكاساً لمزاج السوق المتأثر بانسداد الأفق الحكومي وربما الرئاسي وعدم وجود مخارج واضحة حتى الآن.
ثالثاً، تفلّت السوق السوداء من اي ضوابط، ما يجعل منها مساحة مفتوحة لجني الأرباح وتوجيه الرسائل السياسيَّة».ويشدِّد خاطر على «أنَّ كل تلك العوامل، لا سيما عدم حصول خروقات سياسية حقيقية إن كان لناحية تشكيل حكومة أو حصول إنتخابات رئاسية في موعدها، تؤدي الى جعل الدولار الأميركي من دون أي سقف محدد، ويبدو أننا سنصل الى سعر صرف بقيمة 40 ألف ليرة وهو مستوى مرتفع جداً، في ظلّ غياب المعالجات وعدم وجود جدية في المقاربة واستمرار المشاكل السياسية من دون توقف».
أما في ما خص المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فيرى أنَّه «لا يمكن التعويل عليها في ظل الفراغين الحالي والمقبل. يدفعنا ذلك قسراً، ومن دون اقتناع، الى ربط المستقبل بالآتي من الإستحقاقات. لذلك ارى أن سعر الصرف لن يكون له سقف إن استمرَّت المراوحة». في سياق متصل يشير البروفسور خاطر الى أنَّ سعر الصرف قد يشهد إنخفاضات موقتة قد تتزامن مع انفراجات في الملف الحكومي أو تسريبات عن حلول ما.وأكّد خاطر أن «لا مفاجآت سارة تنتظر اللبنانيين اذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم اذ سنشهد تفاقماً للأزمات الإجتماعية كنتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار وللأزمة السياسية التي نتخبّط بها فالمواطنون الذين كانوا يسيّرون أمورهم على سعر صرف بحدود 30 ألف ليرة للدولار، زاد الخناق عليهم بعد خروج الدولار اليوم عن السكة وتفلّت سعر الصرف، ووضع اسعار المحروقات على سلّم متحرّك. في ظل هذا الوضع رأى أن معالجات زيادة الرواتب للقطاع العام لم تعد حلولاً بل باتت مسبّبة للمشاكل، لأن زيادة الأسعار ينتج عنها تضخم يؤدي الى تآكل الزيادات حتى قبل ان تُدفع خاصة أنَّها ستموّل عبر طبع النقود، وبالتالي الى زيادة الكتلة النَّقديَّة.
وفي ما يتعلق بالحلّ الأنجع لوقف الفوضى المستعرة وتفلّت الدولار، يركز خاطر على «دور الدولة في توفير الحلول فالمواطن هو الذي يتحمّل عواقب ما يحدث، وبالتالي الحلول يجب أن تبدأ عبر تشكيل حكومة جديدة ثم انتخاب رئيس لبناني جديد قادر محلياً ودولياً على جمع الأفرقاء اللبنانيين على إتخاذ قرارات شجاعة تشكّل نواة لحلّ الأزمة» لافتاً الى أن»هذه هي الحلول التي نتوخاها والتي لا يجب ان ترتبط بإدارة الفراغ. نريد أن يكون هناك حكومة انطلاقاً من استقامة العمل المؤسساتي وصولاً الى انتخاب رئيس للجمهورية في اقرب وقت ممكن، اليوم قبل الغد».
وأوضح خاطر أن «ما تبقى لدى مصرف لبنان من احتياطي لا يتيح له إمكانية التدخل مدافعاً عن سعر الصرف المتفلت. وكل المعالجات التي تصدر من خلال التعاميم لا سيما الـ 158 (المتعلق بالإجراءات الإستثنائية المتعلقة بالسحب النقدي من الحسابات) أو الـ161 (المتعلق بسحب العملاء مبلغاً نقدياً بالدولار من حساباتهم بالليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة)، بدأت تفقد مفعولها مع ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية. ويبدو ذلك جلياً من خلال الإرتفاع الذي يسجّله دولار «صيرفة» ليلحق بركب السوق السوداء، يعني ذلك أن الهدف الذي وضعت على اساسه «صيرفة» فشل نهائيا».
في هذا السياق، أشار خاطر الى أنً «وَقف دعم المحروقات من خلال منصة «صيرفة» ليس الا مثالا على ذلك، فعوضاً عن تدخّل مصرف لبنان بنفسه شارياً الدولار في السوق السوداء، تمّ تحويل هذا الأمر الى التجار لشرائه من السوق السوداء ما ينعكس ارتفاعاً في الطلب على الدولار».
وبالنسبة الى حلّ الدولرة الشاملة فانه لا يتناسب بالنسبة الى خاطر مع وضع لبنان، ولا يمكن تطبيقه في بلد ليس لديه ما يكفي من عملات صعبة لتأمين مستلزماته الأساسية. وبرأيه إن «الدولرة الشاملة هي إعدام لدور المصرف المركزي والسياسات النقدية المعتمدة». مشدّدا على أنه «قد يبدو الاصرار على استبدال الليرة بالدولار وكأنه تسويق مقنَّع «لمجلس النقد»، ولمبدأ كفّ يد المصرف المركزي عوضاً عن تكريس إستقلاليته والذهاب الى تعديل قانون التسليف لا سيما منع تمويل الدولة بطريقة عشوائية».
شمّاس: كل المسألة في زيادة الطلب وقلة العرض
يرى المستشار المالي غسان شمّاس ان «الدولار غير متأثّر بشكل كبير بالأزمة السياسية التي نعيشها، وإنما بالعرض والطلب بشكل اساسي، ولن يصير أكثر ما صار».
معتبراً خلال حديثه مع «نداء الوطن» أن «الإرتفاع الذي يسجّله ليس كبيراً جداً، وساهم به توقف المصرف المركزي عن رفد سوق استيراد مشتقات النفط بالدولار النقدي، ولجوء المستوردين الى السوق السوداء لتوفير الدولار».
ويترقّب شمّاس تداعيات إقفال المصارف ابوابها لفترة 3 أيام، اذ سيتبين لنا من ذلك الإمتحان كما قال ما يلي: «إذا ارتفع سعر الصرف فأن الطلب على الدولار يفوق السيولة وان «صيرفة» البنوك كانت تكفي السوق. واذا تراجع، سنعلم أن السيولة متاحة وإقفال المصارف لم يؤثّر على سعر الصرف».
اما الأزمة الدستورية المقبلة، برأي شمّاس فإنها «قد تخفف من الحماسة في السوق التجارية والصناعية والإستهلاكية، ولكن لن تتسبب بأزمة دولار، وما يقال خلاف ذلك يدخل في خانة التهويل، باعتبار أن العرض والطلب هما وراء تحرّك سعر الصرف.
أما موافقة مجلس النواب في جلسة يوم الجمعة الماضي على زيادة رواتب القطاع العام 3 أضعاف، وتداعياتها على ارتفاع سعر صرف الدولار، فيرى شماس ان ذلك «سيرفع السيولة في السوق ويؤدي الى ما يسمى SPRING أي سبق سريع لزيادة سعر صرف الدولار، باعتبار أن من كان يتقاضى 3 ملايين على سبيل المثال سيحصل على 9 ملايين… ما سيزيد من قدرته الإستهلاكية وبالتالي زيادة حجم الواردات.
منصور: الدولرة الشاملة هي الحلّ
لدى الأستاذة الجامعية المتخصصة بالاقتصاد النقدي ليال منصور مقاربة مختلفة لتطور سعر صرف الدولار والحلول «المفرملة» لارتفاعه. اذ تعتبر أن اتجاه الدولار صعودي أكان بسرعة أو تدريجياً بدعم من العوامل السياسية والإجتماعية، وتدخّلات مصرف لبنان.
وشبّهت منصور تحرّك الدولار بالسيارة التي تتجه صعوداً نحو الجبل ولا يمكن للعابر أن يعلم متى ستغيّر سرعتها او يتخّذ السائق قراراً بزيادة سرعته أو التباطؤ في السير.
وعن الدور الذي تلعبه التطورات السياسية، أشارت منصور الى أن «سعر صرف الدولار ممكن أن يحقق في يوم واحد قفزة عالية بدلاً من أن تستغرق تلك الوثبة أسبوعاً كاملاً استناداً الى المؤشرات السياسية التي تعتبر محرّكة وغير مسبّبة للسرعة».
وبرأيها حتى لو تمّ انتخاب رئيس للجمهورية فلن ينخفض سعر صرف الدولار، وحتى لو تمّ التوافق مع صندوق النقد الدولي وتمّ إصلاح قطاع الكهرباء، باعتبار أن لبنان بلد مدولر «لو شو ما عملنا».
وحول الحلول التي تقترحها، رأت أن الحلّ الوحيد هو الدولرة الشاملة أو الـcurrency board. وفي تلك الحالة يتمّ الغاء الليرة اللبنانية واستبدالها بالدولار أو بعملة مشابهة للعملة الوطنية كأن تطبع على عملة الدولار الأرزة اللبنانية، فتصبح العملة دولار الأرزة التي يتمّ التداول بها في البلاد ويمكن استبدالها بالدولار الأميركي في حالات الإستيراد والتصدير أو ضرورات السفر والشراء من خارج لبنان. عندها لا يكون لدينا مصرف مركزي ولا تقترض الدولة من مصرف لبنان…فيصبح لبنان أقوى بلد على صعيد النقد.
واستندت في ذلك الحلّ الى دراسة عن الدولرة أعدّت وأثبتت أن لبنان غير قادر على إدارة العملة.
وحول عدم إمكانية اعتماد مجلس النقد currency board في لبنان وذلك بشهادة غالبية الإقتصاديين وحتى صندوق النقد الدولي، أشارت الى انه «لا يوجد حلّ آخر أمامنا، مصنفة حالة البلاد بمريض لا يستطيع السير على رجله وأمامه حلاّن: إما أن مصيره الموت أو قطع رجله، فماذا يختار؟
واضافت، للتمكن من توحيد سعر صرف الدولار امامنا إما الدولرة الشاملة أو تحرير العملة من العرض والطلب. وبما ان الخيار الثاني مستحيل باعتبار ان مسار الدولار ارتفاعي ويمكن أن يصل الى مليون ليرة، فإن الخيار الأول يبقى الأنسب، علماً أن العملة الوطنية لا ثقة فيها أصلاً وغير متداول بها خارج البلاد.