كتب منير الربيع في “المدن”:
يتركز الاهتمام اللبناني في الظاهر والشكل على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. يسحب اللبنانيون أوراقهم تحضيرًا لهذا الاستحقاق. يستحضرونه في لقاءاتهم الديبلوماسية، أو بمسؤولين دوليين. يستمزجون آراء القوى الغربية والإقليمية المؤثرة. لكن المضمون يتركز على ما هو أبعد من رئيس الجمهورية: شخصيته، مواصفاته، تحالفاته، وما إذا كان وسطيًا أم محسوبًا على طرف. أما القوى الإقليمية والدولية في لبنان فتركز على مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس، وهل سيكون برنامجه متوائمًا مع رئيس الحكومة ومع مجلس الوزراء مجتمعًا، في الاتفاق على خطوط عريضة حول الإصلاحات وغيرها من الملفات.
بين التوافق والقوة
ينطلق هذا الاهتمام من قراءة ومراجعة لتجربة الرئيس ميشال عون، الذي جاءت به معادلة الرئيس القوي. لكن آثار عهده أدت إلى الانهيار، وخصومه يحملونه مسؤولية ما جرى. وهو يلقي المسؤولية على المنظومة وأركانها، أو ما يطلق عليها تسمية منظومة الطائف. بغض النظر عن هذه التفاصيل والتهم، فالخلاصة واضحة: فشل أدى إلى الانهيار الذي تضرر منه اللبنانيون جميعًا. وهو فشل نجم عن الصراعات والخلافات بين عون وخصومه، ما يعني أن معادلة الرئيس القوي لم تنجح.
عرف لبنان تجارب عدة في الحقبة القريبة، لا بد من قراءتها. فمعادلة انتخاب رئيس توافقي تجلّت في انتخاب ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية، فتشكلت حكومة على أساس التوازن بين فريقي الانقسام في البلاد. وعلى الرغم من ذلك، تحققت أوضاع اقتصادية وسياسية جيدة في السنوات الثلاث الأولى من عهد سليمان. وحدث الانقلاب الكبير سنة 2011: تجربة جديدة عنوانها تشكيل حكومة اللون الواحد من حزب الله والتيار العوني. معها بدأت الأزمات السياسية تتسع، وانعكست سلبًا على الواقع الاقتصادي. فأثبتت هذه التجربة فشلها.
التسوية الرئاسية الفاشلة
قبل نهاية ولاية ميشال سليمان، بحث الجميع عن تسوية تنتج حكومة “ربط النزاع”، وتتولى إدارة مرحلة الفراغ الرئاسي الذي كان محتومًا، فكانت حكومة تمام سلام التي استعادت بعضاً من التوازن، قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة، تجلّت بانتخاب ميشال عون رئيسًا.
حقق عون وحزب الله انتصارهما السياسي الكبير، وقبلا بتشكيل حكومة تترأسها شخصية معارضة لهما. كان سعد الحريري رئيسًا لتلك الحكومة. وكان رئيس الجمهورية محسوبًا على قوى 8 آذار بقيادة حزب الله، مقابل رئيس حكومة من قوى 14 آذار. إنها مرحلة ترتيب العلاقة، وإدارة البلاد وفق مقتضيات هذه التسوية. لكن التجربة سرعان ما أثبتت فشل هذه التجربة سياسيًا واقتصاديًا، وتأسيسها لاختلال موازين القوى السياسية. كما أدت إلى تعطيل الحصول على مساعدات دولية، بفعل تعطيل إنجاز الإصلاحات المطلوبة، إلى أن حصل الطلاق النهائي بين الحريري وعون.
تقطيع الوقت والانهيار
أعاد عون وحزب الله تكرار تجربة تشكيل حكومة موالية لهما برئاسة حسان دياب. كانت التجربة أفشل من التجارب السابقة كلها، إلى حدّ وصول حزب الله وحلفائه حدود الاختناق من حكومة دياب، فأُسقطت. وهذا دليل مضاعف على فشل هذه التجربة.
وكان اللجوء إلى خيار حكومة نجيب ميقاتي، بعد تكليف الحريري ومصطفى أديب وعدم قدرتهما على التأليف. عملت حكومة ميقاتي على تمرير قرارات واستحقاقات في إطار تقطيع الوقت والحد من الانهيار. لكنها لم تنتج حلًا ولا تسوية ولا اتفاقًا داخليًا يتقاطع مع الرؤية الخارجية.
الضغط الدولي: رئيسان منسجمان
بناء على هذه التجارب، يُطرح سؤال أساسي: هل ينحصر الاستحقاق المقبل برئاسة الجمهورية فقط، أم يتجاوزها نحو سلّة كاملة متكاملة؟ تشير مصادر ديبلوماسية إلى أن المجتمع الدولي يركز على ما بعد اختيار الرئيس، وعلى كيفية تشكيل الحكومة، على أن يكون الرئيسان متعاونين، بدلا الدخول في صراعات. ولا يمكن لانتخاب الرئيس أن ينحصر في التأثير على رئيس الحكومة الجديد، بل يكون ممهدًا لتحديد العديد من المسارات السياسية.
انتخاب رئيس جديد للجمهورية يحدد مسارًا أساسيًا، ينطلق من سؤال ما إذا كان انتخابه يؤدي إلى تعديل أو تطوير في النظام السياسي اللبناني. وفي حال كانت شخصية الرئيس خلافية، فإن البلاد متجهة إلى ما هو أسوأ.
تستعيد القوى المؤثرة هذه التجارب، وتخلص إلى ضرورة التكامل والانسجام بين رئيسي الحكومة والجمهورية. وهذا يقتضي توافقًا على شخصيتين وسطيتين، لديهما مقومات الثقة الداخلية والخارجية، للحد من الخسائر ووضع خطّة إصلاح أو إنقاذ. الضغط الدولي يتركز إذًا على منع تكرار أي من التجارب السابقة: لا لاختيار رئيس جمهورية ورئيس حكومة محسوبين على طرف واحد. ولا رئيس للجمهورية محسوبًا على طرف، في مقابل رئيس للحكومة محسوب على الطرف النقيض.
من هنا يبدأ الكلام.