كتب طوني عيسى في الجمهورية
يتصرف أركان اللعبة السياسية على أساس «الترقيع» حتى انتهاء عهد الرئيس ميشال عون. فالجميع أطفأ محركاته، ولاسيما الرئيس نجيب ميقاتي، المكلّف تشكيل الحكومة. وهكذا، سيكون لبنان أمام التحدّي في نهاية تشرين الأول: هل هي تسوية سياسية تسمح بمعالجة الأزمات المتفاقمة أم الدخول في مرحلة أكثر عمقاً من الإرباك والضياع؟
الهاجس الوحيد لدى أركان السلطة اليوم ليس تشكيل الحكومة، ولا إقرار صيغة للتعافي يقبل بها صندوق النقد الدولي، ولا حتى بلورة شخصية الرئيس المقبل للجمهورية. ومن دون أوهام، إنّه فقط «تقطيع الوقت»، انتظاراً لتسوية تفرضها القوى الخارجية عندما تنضج الظروف.
الفكرة التي تسيطر على قوى السلطة هي الإفادة من «مزايا» الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي لإغراء السياح عموماً، والمغتربين خصوصاً، لزيارة لبنان بأرخص ما يمكن، علماً أنّ منظومة المال في لبنان جهّزت نفسها للتحصيل بالدولار الطازج، لا بالليرة. وفي أي حال، يدرك المغتربون أنّ السلطة في لبنان، عبر تاريخه، لم تنظر إليهم يوماً إلّا من زاوية نفعية. فهي ليست مغرمة بهم، بل بدولاراتهم.
في حساب السلطة التي تساوم العرب والأجانب للحصول على بضعة ملايين من الدولارات، أنّ موسم الاصطياف سيتكفل بجمع قرابة 3 مليارات دولار. وهذا المبلغ يستحق تنظيم الحملات الإعلانية غير المسبوقة لتشجيع الزائرين.
ضمن منهج الترقيع المتبع، هذا المبلغ يمكن أن يغطّي المرحلة حتى نهاية تشرين الأول، أي نهاية العهد، من دون حاجة ماسّة إلى مدّ الأيدي للعرب والأجانب، خصوصاً أنّ هؤلاء لهم شروطهم القاسية التي يمكن اختصارها بالإصلاح علناً، لكنها في الواقع شروط سياسية. وأساساً، في أفضل الأحوال، هؤلاء ليسوا مستعدين لتزويد لبنان سوى ببضع عشرات الملايين من الدولارات، وللقطاعات الإنسانية حصراً، ويتمّ تسليمها عبر هيئات غير حكومية.
إذاً، المليارات التي سيوفرها المغتربون وبعض السياح خلال هذا الصيف هي بالضبط ما تحتاج إليه قوى السلطة للاستمرار وتجنّب انفجار اجتماعي يربكها، في مرحلة الوقت الضائع، خصوصاً أنّ الورقة الوحيدة التي تلعبها، أي استنزاف احتياط المصرف المركزي، قاربت استنفاد صلاحيتها، وبدأ الحديث همساً عن بدائل حساسة أو خطرة، كالتصرّف بما أمكن من احتياطي الذهب أو موارد الدولة وممتلكاتها.
لقد نجح فريق السلطة في إمرار المراحل الصعبة منذ 17 تشرين الأول 2019، ونسف كل محاولات إسقاطه تحت وطأة الضغط الاقتصادي والاجتماعي. وهو اليوم يستعد ليكون الأقوى في المرحلة الجديدة، مراهناً على أنّ التسويات السياسية الخارجية ستأتي ولو تأخّرت، وستكرّس حضوره. ومع التسويات السياسية سيأتي الانفراج مالياً واقتصادياً.
قراءة بعض قوى السلطة هي أنّ الأزمة المالية لم تكن لتنفجر في العام 2019 لو لم يكن هذا الانفجار مقصوداً ضمن الحصار الدولي على لبنان، لدفعه إلى خيارات سياسية معينة، وللضغط على الحزب وحلفائه.
وهذه النظرة لها ما يثبتها. فصحيح أنّ واقع الهدر والفساد المتمادي طوال عقود أوقع الدولة في خسائر باهظة، ما أدّى إلى نمو الدين العام حتى قارب 100 مليار دولار. لكن الصحيح أيضاً هو أنّ واقع الفساد والهدر كان ينمو على مرأى من القوى الإقليمية والدولية، بل كان بعضها يغذيه أحياناً بطريقة غير مباشرة، ومعه العديد من المؤسسات المانحة التي لم تكن تسأل كثيراً عن الشفافية، كما هي لا تسأل عنها اليوم في تعاطيها مع الكثير من الحكومات والدول.
فلماذا بقيت الدول والمؤسسات المانحة تزود لبنان بالمليارات بلا حساب ولا رقابة، على مدى عقود، ثم استفاقت فجأة على الفساد وقرّرت محاصرة السلطة وقطع كل دعم عنها، لو لم يكن ذلك جزءاً من الحصار السياسي لفريق السلطة في لبنان و»الكباش» مع إيران، خصوصاً بعد تولّي دونالد ترامب زمام البيت الأبيض؟
واستطراداً، يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّ أي انفراج سياسي قد يتمّ التوصل إليه في لبنان، ويحظى برعاية دولية وإقليمية، سيقود تلقائياً إلى انفراج للأزمة المالية والنقدية، وأنّ القوى الخارجية التي تضع الشروط القاسية على لبنان لمنحه المساعدات المطلوبة سترفع حظرها وتتراجع عن تشدّدها عندما ينطلق الحل السياسي المتوافق عليه.
ولذلك، في نظر هذا الفريق، إنّ أجدى ما يقوم به اليوم هو أن «يصمد» بالإمكانات المتوافرة، ريثما تأتي الحلول من الخارج، فيتمّ تعويض الخسائر وسدّ الفجوات وينطلق مسار الحل. وبناءً على هذه النظرة، هناك إجماع داخل السلطة على استنفاد كل الوسائل والأساليب التي تسمح بكسب الوقت ريثما يأتي الحل السياسي. وثمة اعتقاد لدى البعض بوجود فرصة لولادة هذا الحل في تشرين المقبل، ومعه يمكن أن يجري فك الحصار عن لبنان ويبدأ مسار الإفراج عن المساعدات.
هل هذا الاحتمال في محله؟ وهل القوى المعنية بالملف اللبناني تتجّه إلى تسويات كبرى، أو على الأقل إلى تسوية موضعية على قياس لبنان، إذا تعذّرت التسويات الكبرى؟
من سوء الأقدار اندلاع الحرب في أوكرانيا مطلع العام الجاري، وفي اللحظة التي كان يتقدّم فيها الملف الأكثر حساسية في الشرق الأوسط ولبنان، أي الملف النووي الإيراني. فلو تأخّرت حرب أوكرانيا لاستفادت المنطقة ولبنان من مناخات التسوية في فيينا.
اليوم، ملفات الطاقة والصراع مع إسرائيل والحدود والهيمنة الإقليمية وصراع المحاور الكبرى، كلها تتحرّك على وقع الحرب في أوكرانيا. وإذ يلهث الغربيون لجمع أوراقهم في الشرق الأوسط لمواجهة الدب الروسي الذي لا ينفك يخرق أسوار أوروبا والأطلسي بلا تردّد، سارع فلاديمير بوتين إلى قمة في طهران تضمّ الأتراك أيضاً. وهذا ما سيمنح الإيرانيين هامشاً واسعاً للمناورة بين الأميركي والروسي، وسيلمس العرب والإسرائيليون هذا الارتياح الإيراني، من اليمن والعراق وسوريا إلى لبنان.
المؤشر الأبرز إلى المرحلة الآتية هو أوكرانيا. فالاستنزاف هناك يرجح فرضية الأزمات المفتوحة عبر الشرق الأوسط والعالم، فيما التهدئة ترجح فرضية التسويات. وحتى اليوم، لا توحي الحرب هناك إلّا بالتصعيد. وهذه إشارة سلبية إلى مسار الأزمات عموماً، ومنها أزمة لبنان.
ستكون هناك دولارات في لبنان لتغطية المأزق حتى تشرين، لكن مسار الاهتراء الإداري والمؤسساتي لا يبدو قابلاً للضبط، ومعه سيبلغ الاهتراء الاجتماعي حدوداً يصعب تحديد عواقبها، فيما البلد غارق في أزمة شغور كامل في السلطة التنفيذية، بين حكومة لا تتجاوز صلاحياتها تصريف الأعمال ورئيس للجمهورية يرفض إخلاء الموقع لها.
في هذه الحال، لن يكون هناك سوى رهان ضعيف على الفرنسيين المنشغلين بالتحسب لكوابيس الحرب في أوروبا، والسعوديين المنشغلين بمآزق التموضع بين معسكرات الشرق والغرب، لعلّ ذلك يمنع دخول لبنان في الأسوأ. لكن الوساطات في هذه الأجواء ليست مضمونة النتائج. وقد يكون على اللبنانيين أن يتحسبوا لشهور عصيبة بعد تشرين… إلّا إذا حدثت معجزة!