كتب شارل جبور في نداء وطن:
صحيح أن الحكومة اللبنانية اتخذت في 5 و 7 آب قرارات تؤكد أن الدولة تحتكر وحدها السلاح، وأنها ستعمل على نزع السلاح خارج إطارها تطبيقًا لاتفاق الطائف والقرارات الدولية واتفاق وقف إطلاق النار، وصحيح أيضًا أن تنفيذ هذه القرارات ما زال، بشكل أو بآخر، مجمدًا ومعلقًا، لكن المآخذ الخارجية والداخلية لا تتعلّق بعدم التنفيذ فحسب، بل بالمرحلة التي تلت اتخاذ القرارات وتسبق التطبيق.
فالمواقف والبيانات الصادرة عن المسؤولين في الدولة ما زالت تنتمي إلى مرحلة ما قبل إصدار القرارات المتعلقة بنزع السلاح غير الشرعي، ما يشكل بحد ذاته غطاء لهذا السلاح عبر الاستمرار في تبني روايته حول الضربات الإسرائيلية والنزاع المستمر مع إسرائيل. وهذه الرواية، وبمعزل عن كونها خاطئة، تُبقي لبنان في دائرة اللااستقرار نفسها، من دون القدرة على الخروج منها.
وما هو ثابت في المشهد السياسي أن السلطة اعتبرت في 5 آب الماضي أن سلاح “حزب الله” غير شرعي، فيما الجيش الإسرائيلي، بالمقابل، يستهدف “الحزب”، الذي كان أعلن الحرب ضدّ تل أبيب في 8 تشرين الأول 2023. وهذا يعني أن إسرائيل تستهدف ما يعتبره لبنان الرسمي سلاحًا غير شرعي، أي أن الدولة اللبنانية والدولة الإسرائيلية تتقاطعان، ولو من موقع العداء، على اعتبار “الحزب” خارجًا عن الشرعية ويتصرّف خلافًا لإرادة الدولة اللبنانية.
وما هو ثابت أيضًا أن المواجهة التي تخوضها إسرائيل في لبنان ليست مع الدولة اللبنانية، بل مع “حزب الله”، الذراع الإيرانية التي كانت تسيطر على قرار الحرب والحدود. أما الفارق بين الأمس واليوم ، فهو أن الدولة كانت تغطي هذه الذراع، رغم أن تغطيتها تعد مخالفة للدستور والقرارات الدولية، إذ لا وجود لشيء اسمه “مقاومة” في الدستور، بل فُرِضت على اللبنانيين فرضًا. أما اليوم، فقد رفعت الدولة الغطاء عن ذراع إيران مع العهد الجديد، في خطاب القسم والبيان الوزاري ومواقف رئيسي الجمهورية والحكومة وقرارات 5 و 7 آب الحكومية.
ولا يُفترض بالدولة أن تواصل التعامل مع إسرائيل على أنها المشكلة الوحيدة، فهذا غير صحيح. ويجب التمييز حتى حدود الفصل، بين أن إسرائيل هي عدو حتى إشعار آخر، وبين أن سبب الحرب معها هو “حزب الله” انطلاقًا من أجندته الإيرانية، لا العداء بحد نفسه. وهذا يستدعي معالجة السبب الفعلي للحروب، أي نزع سلاح “الحزب”، وإلا سيواصل لبنان الدوران في الحلقة المفرغة نفسها.
فالعداء بين دولة ودولة لا يعني الحرب، بل غياب العلاقات، كما كان عليه الوضع بين لبنان وإسرائيل في ظل اتفاق الهدنة، أو بين حافظ الأسد وإسرائيل رغم احتلالها للجولان، وكان الأسد يتباهى باستقرار الجبهة معها. والعداء مع إسرائيل ما زال قائمًا مع دول عربية عدة من دون حرب. وبالتالي، سبب الحرب معها في لبنان هو “حزب الله”، الذي يستخدم إسرائيل ذريعة للهيمنة على القرار اللبناني خدمةً للمشروع الإيراني التوسعي.
والدولة تعريفًا، هي الجهة التي تحتكر القوة في النطاق الجغرافي الذي تديره، ومسؤوليتها الأولى بسط سيادتها على أرضها. ومن يمنعها من ممارسة هذا الدور هو “حزب الله” الذي لا يزال متمسكًا بسلاحه. وهذا يعني أن مشكلتها الأولى ليست مع إسرائيل، بل مع “الحزب” الذي يقاتل إسرائيل وفقًا لأجندته، وخلافًا للدستور اللبناني.
إن مشكلة الدولة اللبنانية مع الدولة الإسرائيلية تبدأ حين تحتكر الدولة اللبنانية السلاح وتبسط سيطرتها على كامل أراضيها، وتقوم إسرائيل عندها بانتهاك سيادتها. أما اليوم، فمشكلتها الأساسية هي مع “حزب الله”، ليس فقط لأنه يستجر الحرب مع تل أبيب، بل لأنه يستخدم الأرض اللبنانية منطلقا لأعمال مسلحة وتخريبية، وفي مخالفة صريحة للدستور اللبناني.
إن مشكلة الدولة اللبنانية اليوم هي مع “حزب الله” وليس مع إسرائيل، لأن من يمنعها من احتكار السلاح هو “الحزب”، لا إسرائيل. ومسؤوليتها الأولى والأخيرة أن تبسط سيطرتها على أراضيها وحدودها، وأن تمنع أي أعمال عسكرية وتخريبية من أراضيها. ولا ضرورة للتذكير بأن لبنان لو تمكن سابقًا من منع المنظمات الفلسطينية من استخدام أراضيه للاعتداء على إسرائيل، لما سقطت اتفاقية الهدنة.
وعليه، وعلى رغم أهمية نزع سلاح “حزب الله” وتفكيك تنظيمه المسلّح، فإن الأهم اليوم، خصوصًا أن هذا السلاح أصبح خارج الخدمة، هو أن تسمي الدولة الأمور بأسمائها، وأن تعلن بشكل واضح ومتكرّر أن المشكلة اللبنانية تتمثل في الجناح العسكري لـ “الحزب”، وأن الضربات الإسرائيلية سببها هذا السلاح، وأن الدولة لن تألوَ جهدًا في تنفيذ دستورها وقراراتها.
الأكثر

