كتب شربل الصياح في موقع JNews Lebanon
شهدت الفترة الأخيرة بوادر تقارب حذر بين الولايات المتحدة وإيران، ما أثار تساؤلات حول التحولات المحتملة في السياسة الإيرانية، خاصة مع تولي رئيس ” مدني ” للسلطة في إيران . هذا التقارب يعكس ، إلى حد كبير ، استراتيجية مدروسة من قبل الحرس الثوري الإيراني ، في حين يحافظ على مصالحه العميقة وسيطرته على النظام السياسي والأمني في البلاد . في هذا السياق ، يمكن مقارنة هذه التحركات الإيرانية بما قام به رئيس الإتحاد السوفياتي جوزيف ستالين عبر تعيين وزير الخارجية السوفياتي الشهير ، فياتشيسلاف مولوتوف ، الذي كان مهندسًا لسياسات خارجية تقوم على المناورة الاستراتيجية ، حيث حافظ على مصالح الاتحاد السوفيتي بالتفاوض مع القوى الدولية الكبرى دون تقديم تنازلات حقيقية .
الحرس الثوري الإيراني والاستراتيجية المولوتوفية
على غرار مولوتوف ، الذي كان رمزًا للدبلوماسية السوفيتية الصلبة ، يعتمد الحرس الثوري الإيراني على مبدأ المناورة لتحقيق مصالحه دون التضحية بالمبادئ الجوهرية للنظام. في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، نجح مولوتوف في عقد صفقات مع قوى متضادة ، مثل ألمانيا النازية وبريطانيا ، بهدف تعزيز موقع الاتحاد السوفيتي . بالمثل ، يسعى الحرس الثوري الإيراني اليوم إلى استخدام الرئيس المدني كأداة لتحسين العلاقات مع الغرب ، و التّموضع في محور الولايات المتحدة ، دون أن يكون لذلك تأثير جوهري على سلطة الحرس أو هيمنته على السياسة الداخلية والخارجية لإيران .
الرئيس المدني كواجهة ” ليبرالية صوَريّة “
التكتيك الإيراني الحالي يعتمد على تقديم رئيس مدني بوجه ليبرالي منفتح ، يُظهر إيران وكأنها تتجه نحو الإصلاح والانفتاح ، في محاولة لتخفيف الضغوط الاقتصادية والعقوبات المفروضة عليها . فإذا كان دورها في الحرب القائمة في غزّة و لبنان سلبيّاً في تموضعها ، فلا بدّ لها أن تعيد النّظر في إطار سياسياتها من خلال عملية ” فصل ” بين الحرس الثوري الإيراني و الجمهورية الإيراني .
في الواقع ، هذا الرئيس ” المدني ” لا يملك السيطرة الكاملة على النظام ، بل يعمل ضمن حدود مرسومة بعناية من قبل الحرس الثوري .
يهدف الحرس الثوري من خلال هذه الواجهة إلى إقناع الغرب بأن إيران جاهزة للتفاوض والتسوية ، كما أشار الرّئيس الإيراني الجديد مسعود بزكشيان بينما يحتفظ بالقوة الحقيقية في يده . هذه المقاربة تعكس، بشكل واضح، استراتيجية مولوتوف ، الذي كان يتفاوض مع القوى الغربية خلال الحرب العالمية الثانية دون تقديم تنازلات جوهريّة ، بل كان يهدف إلى تعزيز موقع الاتحاد السوفيتي في الساحة الدولية .
السياسة الخارجية الإيرانية: إستنساخ نسبي للإستراتيجية السوفياتية
النموذج الذي يعتمده الحرس الثوري الإيراني في التعامل مع الغرب يستند إلى نفس المنطق الذي اتبعه الاتحاد السوفيتي تحت قيادة مولوتوف : الاستفادة من الانقسامات بين القوى العظمى ، والمناورة بين الأعداء والحلفاء لتحقيق المكاسب دون تقديم تنازلات استراتيجيّة. تمامًا كما استغل الاتحاد السوفيتي التوترات بين القوى الغربية وألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي لتوقيع معاهدة “مولوتوف-ريبنتروب” الذّي أدّى إلى تقسيم بولندا واحتلالها ، وتوفير تحالف مؤقت بين القوّتين ، و الأهمّ ، أنّها تضمّنت بنودًا سريّة قسّمت أوروبا الشرقيّة إلى مناطق نفوذ بينهما .
يسعى الحرس الثوري الإيراني إلى استغلال الحرب القائمة و ضعف الإيقاع الأميركي و أزمة نتنياهو الداخليّة ليعيد تموضعه داخل هذا المِحور لعلّه يكسب أكثر من الضّمانات التّي بحوزته.
هذه الاستراتيجية المزدوجة ، التي تعتمد على الانفتاح الظاهري والتشدد الداخلي ، تعكس مزيجًا من البراغماتية والتكتيكات طويلة المدى . الرئيس المدني يقدم نفسه كمفاوض منفتح وجاهز للتسوي ة، بينما يستمر الحرس الثوري في تحصين مواقعه الاقتصادية و نفوذه العسكرية و ميليشياته داخل إيران وخارجها .
وبالتّالي ، من المستبعد اليوم التّكلم عن عملية بَيع لأذرعها ، بالأخصّ حزب الله ، الذّي هو واجهتها الشّرق الأوسطيّة الجوهريّة.
في نهاية المطاف ، يظهر التقارب الأميركي الإيراني كجزء من استراتيجية إيرانية مستوحاة من تجربة الإتحاد السوفيتي في الحقبة المولوتوفية .
الرئيس المدني هو مجرد واجهة تسويقية لهذا التقارب ، بينما يظل الحرس الثوري هو المحرك الرئيسي الذي يوجه دفة الأمور . من خلال هذا المزيج من الدبلوماسية الصارمة والانفتاح المدروس ، تسعى إيران إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية دون تقديم تنازلات حقيقية ، تمامًا كما فعل مولوتوف عندما حمى مصالح الاتحاد السوفيتي في فترة من أصعب فترات الصراع الدولي.