كتب جورج شاهين في الجمهورية
تنحو التطورات العسكرية التي ارتفعت وتيرتها في الأيام القليلة الماضية في لبنان وسوريا الى تقدّم الخيارات العسكرية على السياسية إلى حين. فتوقف المفاوضات الخاصة بغزة بعد تجميد المبادرة الاميركية وتأجيل طرح الخطة البديلة، ألقى بثقله على الوضع المتفجّر وأعطى إسرائيل مهلة إضافية لتضرب بقوة في ساحات المواجهة الاقرب إليها. وكل ذلك يجري ترقباً لسيناريو لا تتجاهله “استراتيجية المقاومة” التي استعدت له، إن لم تكن في مرتبة الترحيب به. وهذه هي السيناريوهات المتداولة.
تُجمع المراجع السياسية والديبلوماسية عند قراءتها لمجموعة الأزمات المتناسلة والمتداخلة التي تلت عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من عمليات عسكرية بأبعادها الإقليمية والدولية، على الاعتراف بصعوبة التوصل إلى أي منفذ لإحداها يمكن ان يؤدي إلى تفكيك تلك التي نجمت عنها. فحجم العمليات المتتالية التي اتسمّ بها الردّ الإسرائيلي الفوري عليها، كما أوحت به عملية “السيوف الحديدية” وحرب “الإلهاء والإسناد” التي تلتها في اليوم التالي من جنوب لبنان، اعطى ما جرى أبعاداً غير مألوفة لم يعرفها تاريخ النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني، وما بين اسرائيل ودول “الطوق العربي”، منذ أن قامت دولة اسرائيل على أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وما زاد في الطين بلّة، ان توسعت الحرب إلى مساحات اخرى بلغت الساحات العراقية والسورية وصولاً الى اليمن والبحرين الأحمر والعربي ومضيقي باب المندب وهرمز، فتداخلت الحروب البحرية والبرية وأسندتها العمليات الجوية البعيدة المدى خلف المحاور التقليدية ومعها موجة الاغتيالات في عمق الاراضي اللبنانية وسوريا وصولاً إلى ساحات بعيدة بلغت بالاضافة الى اليمن عمق الاراضي الايرانية وعاصمتها طهران.
على هذه الخلفيات لم يعد مستبعداً ان تُعلن حال الاستنفار الديبلوماسي الدولي والاقليمي، فتعدّدت المبادرات التي أطلقتها مؤتمرات عربية ودولية في القاهرة والدوحة ومعها مجموعة القمم العربية والإسلامية الاستثنائية. كما كونت واشنطن اكثر من حلف دولي لإدارة المواجهة مع الحوثيين في البحر الأحمر وحماية خط النقل الدولي عبره، واخرى ثنائية وثلاثية بالتعاون مع مصر وقطر وأكثر من دولة اوروبية، للتوصل الى تفاهم يعطي الحل السياسي دوراً في مواجهة الخيارات العسكرية منعاً لـ “الحرب الشاملة” التي اطلّت بقرنها في أكثر من محطة دموية، في سباق غير متكافئ مع الخيارات الاخرى، فأطاحت الادوار التي راهن عليها اعضاء مجلس الامن الدولي وحكومات هذه الدول.
وانطلاقاً مما تقدّم، وفي موازاة فشل المساعي الدولية المتكررة، بقيت من وقت لآخر كل السيناريوهات العسكرية مطروحة على اكثر من مستوى. وإن نجحت الديبلوماسية الدولية والإدارة الأميركية تحديداً في وضع بعض ردّات الفعل التي قام بها “محور الممانعة” ضمن السقوف التي يمكن التحكّم بها، فإنّ العديد من الخيارات السلبية ما زالت قيد التداول في الغرف العسكرية بطريقة قد تكون مختلفة عن النماذج التي عاشتها المنطقة وساحات الحروب المتعددة. وإن تجلّى القديم منها بالنماذج التي اتسمّ بها الردّ الايراني على قصف “القنصلية الايرانية” في دمشق في الأول من نيسان الماضي في 13 منه، كما بالنسبة إلى ردّ “حزب الله” في 25 آب الماضي انتقاماً لاغتيال المسؤول العسكري فؤاد شكر ليل 30 – 31 تموز الماضي، فإنّ ما هو مطروح اليوم يتناول في جانب منه حرباً برّية محتملة لا بدّ ان يُقدم عليها الجيش الاسرائيلي إن اراد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المضي بإشعال المنطقة وقيادتها إلى حرب شاملة لتحقيق مآربه بالحرب التي يستدرج إليها قوى المنطقة الحليفة منها والعدوة في آن.
وعليه، فإنّ استعدادات “محور المقاومة” ما زالت قائمة في مواجهة اي خيار محتمل، بما فيه الحرب البرية التي لا يجب إسقاطها من اي حسابات منطقية تحاكي حجم النزاع القائم في المنطقة بأبعاده التي يمكن ان تتجاوز ما يجري في غزة والضفة التي ضمّتها تل أبيب الى مسرح عملياتها العسكرية الداخلية وجنوب لبنان. وإن دخلت اوساط هذا المحور في مزيد من التفاصيل، فهي تتحدث عن مجموعة سيناريوهات مختلفة أبرزها ثلاثة:
– يقول أولاها باحتمال ان تُقدم إسرائيل على عمليات إنزال جوية وبحرية في المنطقة الواقعة شمال مجرى نهر الليطاني تزامناً مع حصار بحري محكم، في محاولة للفصل بين الجبهة الجنوبية والعمق اللبناني.
– ويقول ثانيها بعملية التفاف يمكن ان تقوم بها اسرائيل انطلاقا من الجولان السوري المحتل في اتجاه المناطق السورية الخالية من اي قوة عسكرية قادرة على التصدّي لعملية خاطفة في اتجاه وسط البقاع اللبناني، لتطويق منطقة العمليات الحالية وقطع اي تواصل بينها والعمق السوري ـ العراقي، وقطع ما يسمّى خط الإمداد على طول الاوتوستراد الممتد من الضاحية الجنوبية – دمشق – بغداد فطهران، الذي ما زال مفتوحاً بشكل من الأشكال.
– وثالث السيناريوهات المحتملة، ان تحيي اسرائيل برامج الاغتيال التي وضعت على لائحتها قيادات عسكرية لبنانية وفلسطينية وايرانية، في موازاة رفع وتيرة عملياتها العسكرية في الداخل السوري بغية استدراج المحور بكامله إلى ما يشتهيه نتنياهو من مواجهة تقود حليفته واشنطن الى مزيد من التدخّل المرفوض لديها حتى الآن.
وإلى هذه السيناريوهات المحتملة لا يستبعد محور المقاومة – حسب أوساطه القريبة من العقل العسكري – مثل هذه الخيارات، في وقت سبق له ان هدّد بعملية توغل في اتجاه الجليل الأعلى. فالخطط الخاصة بهذه العملية مرسومة ومعها ما تحتاجه من وسائل الدعم بقوة نارية كثيفة قدّمت نماذج “مصغّرة” منها أكثر من مّرة، لتكون خطوة غير مسبوقة مرسومة بدقة ويتوقعها كثر من الخصوم والحلفاء، وكل منهما لغاية مختلفة عن الأخرى.
وتعليقاً على ما يمكن ان تقود اليه هذه السيناريوهات، تعتقد المراجع العليمة أنّها ليست غائبة عن العقول العسكرية في المنطقة، وقد يكون التهديد بها وسيلة للإسراع في انهاء الحرب بما انتهت إليه حتى اليوم. ذلك انّ مثل هذه العمليات تفترض توفير قوات اسرائيلية برية تزيد على 120 ألفاً، وهي غير متوافرة للجبهة الشمالية، وإن وقعت لن تكون “نزهة” بالنسبة الى طرفي النزاع. فمن يتنكر لاحتمال ان يتطابق العقل العسكري الاسرائيلي المتغطرس مع خيارات الحكومة المتشدّدة، وما يحتاج الرئيس المقبل لاميركا من دعم اسرائيلي قد يكون بعيداً عن المنطقة ولن تكون مجرد أوهام. وقد نشهد على بداياتها وردود مزلزلة قد تضع حداً سريعاً لكل ما يجري على خلفية الاقتناع الشامل بأنّ الحل السلمي بات مستحيلاً ولن يكون مستعجلاً ما لم يُبن على مزيد من المخاوف وهذه عينة منها.