بعيداً عن الميدان والحرب المندلعة في جنوب لبنان، لا يُخفي “حزب الله” نيته إعادة تشكيل قراءة سياسيّة جديدة لوضعه مع أفرقاء الداخل. المسألة الأساسيّة هنا تفرضُ عليه تقييم من “وقف إلى جانبه” من جهة، ومن “خذله” من حلفاءَ قبل الخصوم من جهة أخرى.
صحيحٌ أن “انشغالات” الحزب بالميدان كبيرة، لكن هذا الأمر لم يمنع جناحه السياسيّ من إجراء جولة أفقٍ لكل المرحلة التي مضت، خصوصاً أنه منذ 10 أشهر وحتى الآن، هناك أمور كثيرة توضّحت على صعيد الخصوم والحلفاء، فمن ابتعد قد ابتعد، ومن “جنح” عن الخط قد جنَح، ومن آثر الوقوف إلى جانب الحزب رضيَ الأخيرُ به حليفاً أكيداً ليس بالضرورة الآن بل في وقتٍ لاحق.
أول طرفٍ “فاز” بـ”تأييد الحزب” وجمهوره هو الرئيس السابق للحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط. في أوساط أبناء الجنوب، يعدّ جنبلاط “الزعيم الوطني” الذي رسم موقفاً واضحاً مما يجري في جنوب لبنان وعلى صعيد مساندته لـ”حزب الله” خلال حرب ضدّ إسرائيل. المسألة هنا تعتبرُ وجودية، فجمهور الحزب رأى أن جنبلاط تخلّى عن ضوابط تحالفات تقليدية مع مناوئين للحزب، واتخذ موقفاً علنياً يدعم جبهة الأخير من دون أيّ منازع.
ما كسبهُ الحزب هنا هو أن حاز على دعم جنبلاط من دون أن يعقد معه تفاهماً قبل الحرب مثلما حصل مع “التيار الوطني الحر” عام 2006 في مار مخايل. حتماً، كان معروفاً التقارب بين حارة حريك والمختارة على فترات متعددة، لكن الموقف الجنبلاطي المؤثر خلال سياق الأحداث الأخيرة، استدعى تمسك الحزب بـ”بيك المختارة” كون قاعدته السياسية والشعبية كبيرة جداً ووازنة.
قد يظنّ البعض أن الدعم الذي يكرسه جنبلاط لـ”حزب الله” ينحصر فقط في إطار الطائفة الدرزية، لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير. عملياً، فإن نطاق “الإشتراكي” وتأثيره يتشعب أكثر في بيئات أخرى لاسيما البيئة السنية، فلجنبلاط حضوره الأساسيّ في الوسط المذكور، وبالتالي فإن تأثيره هنا له أبعاده، ويجعل مسألة احتضان الحزب حاضراً ضمن مختلف شرائح هذه البيئة وتحديداً تلك التي تؤيد بيت آل جنبلاط تاريخياً.
لهذا السبب، يكون “حزب الله” قد كسِب ودّ جنبلاط ودعمه من جهة، واستطاع أن يضمن طرفاً من الشارع السني من جهة أخرى، حيثُ يمون جنبلاط بشكلٍ خاص ومُحدّد. أيضاً، فإن مساندة “بيك المختارة” لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ضد حملة “القوات اللبنانية” على الأخير، تؤسس لتوطيد الوضع الداخلي أكثر فأكثر، ولجم أي خطوة تؤدي إلى تزعزع بنيان الدولة. ولكن، ماذا عن “التيار الوطني الحر”؟ وماذا عن حلفاء الأمس أمثال وئام وهاب؟
ما يظهر من خلال الإتصالات والمعلومات والتسريبات أنّ “حزب الله” أراد “تهدئة اللعب قليلاً” مع “الوطني الحر”، فلا مجال أصلاً للمناكفات، بينما لا سبيل في الأساس لـ”العتاب السياسي” في وقتٍ قد تستعرُ فيه جبهة جنوب لبنان على وقع مفاوضات قمة قطر المعنية بحرب غزة.
ضمنياً، قد لا يعني “حزب الله” حالياً استرضاء “الوطني الحر”، بقدر ما يسعى إلى “عدم خسارته كلياً” في الوقت نفسه، مع العلم أن الطرق نحو الحوار الثنائي مُقفلة. فمن جهة، هناك جبهة مسيحية يجب أن تبقى مؤازرة للحزب، وما الأصوات التي خرجت من رحم “التيار” ونادت بالإنفصال عنه سوى جهات مثلت في وقتٍ سابق أساس التقارب بين “الوطني الحر” والحزب كون هناك مصلحة انتخابية أولاً وشعبية ثانياً ومصيرية ثالثاً.
بكل بساطة، فإن “انكفاء الوطني الحر” عن دعمِ الحزب بشكلٍ مُطلق لا يعني “جنوحه” وانتقاله تماماً إلى “ضفة القوات اللبنانية” التي ترفض “حزب الله” بشكل قاطع. هنا، يقولُ أحد المؤيدين لـ”الوطني الحر”: “صحيحٌ أن هناك خلافات، ولكننا مش زعلانين هالقد لحتى نصير مع القوات ضد الحزب”.
لذلك، وعلى الرغم من وجود ثغرات كبيرة، إلا أن القاعدة الشعبية لـ”الوطني الحر” قد تفرضُ لاحقاً على قيادته إعادة مد جسور التواصل مع “حزب الله”، خصوصاً إن خرج الأخير فائزاً من معركة جنوب لبنان وسط توازنات سياسية جديدة ستُبرز نفسها واقعاً قائماً بحد ذاته.
أمام كل ذلك، يبقى السؤال عن حلفاء الأمس الآخرين أمثال وئام وهاب؟ فما هي آفاق علاقة الحزب مع الأخير؟ وكيف سيكون تقييم الصلات بين الطرفين؟
خلال قراءته حادثة مجدل شمس في أواخر تموز الماضي، لم ينجح وهاب بالحفاظ على موقعه إلى جانب “حزب الله”، بل بات بعيداً جداً عن جبهة الأخير لاسيما أن المؤازرة التي كانت مُنتظرة من وهاب لم تتحقق. لهذا السبب، فإن حصاد موقف وهاب لن يكون الآن، وقد تكون انتخابات العام 2026 نتيجة حتمية لـ”جنوح الجاهلية” في المواقف بعيداً عن الحزب وخطه لاسيما خلال مرحلة مفصلية جداً مرتبطة بحربٍ وبقاء ووجود.
إزاء ذلك، فإن وهاب قد لا يلقى لاحقاً أي تأييد من “حزب الله” بشكل مُطلق، فالمصلحة الآن ليست معه. حالياً، مصلحة حارة حريك مع جنبلاط فقط الذي يستطيع أن يكون مُسانداً للحزب، وسيطاً مع الآخرين في سبيل دعمه، و”بيضة القبان” التي يمكن أن تقلب التوازنات السياسية وخصوصاً عندما يرتبط الأمر بانتخاب رئيسٍ للجمهورية.
في خلاصة القول، مسألة ارتباط “حزب الله” بجنبلاط باتت راسخة، لكن السؤال الذي يطرحُ نفسه هنا: إلى متى سيبقى هذا الأمر قائماً؟ وهل سنشهد يوماً ما على “تراجع العلاقة” مثلما حصل سابقاً وخلال مراحل الانتخابات؟ كلّ شيء وارد وغيرُ مُستبعد!