بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة كانت أمام “القوات اللبنانية” اسباب كثيرة للاحتفال، اولاً حصدت اكبر كتلة نيابية مسيحية، وثانيا حقق فريقها السياسي المعادي لحزب الله انتصارا شبه كامل بعد هزيمة العام ٢٠١٨، وثالثا تراجع خصمها الاساسي على الساحة المسيحية، اي “التيار الوطني الحر” كثيرا على الصعيد الشعبي. حققت القوات جزءاً كبيرا من “حلمها”، واستطاعت استمالة عدد من النواب السنّة بعدما انكفأ الزعماء السنّة الاساسيون عن خوض الانتخابات. شعر رئيس “القوات” الدكتور سمير جعجع انه حقق انتصاراً كاملاً، وبات الرجل الاقوى في البلد. انتشت “القوات” بنصرها، واحتفلت وحضرت نفسها لتحويل الفوز الانتخابي الى مكسب سياسي، لكن جينات الفشل “المعتقة” من ايام الحروب الخاسرة في الجبل وشرق صيدا، غلبت على التطبع.
بعد نحو ٣ سنوات من الانتخابات النيابية، تظهر القوات وكأنها تنظيم يساري يعيش على اطلال البيانات الثورية. حزب عاطل عن النضال يستحضر شعارات “ثورة الارز” تارة وثورة” ١٧ تشرين” تارة اخرى. خسرت القوات كل مكتسبات انتصارها الانتخابي، اولا قررت التضحية بالجمهور السنّي، الذي ظن جعجع ان جزءا كبيرا منه اصبح قواتيا. فخاض الرجل معركة عنيفة ضد الوجدان السنّي، ووقف ضد نضال الشعب الفلسطيني حتى أعاد “القوات” في اذهان السنّة كما كانت عليه قبل العام ٢٠٠٥. حتى ان النواب المتحالفين مع معراب باتوا غير مقبولين نسبيا في بيئاتهم. اعادت “القوات”نفسها الى العلبة القديمة. في الاصل قد يكون نجاح جعجع الوحيد في تاريخه انه يعرف كيف يعزل نفسه. وخسرت “القوات” ايضا النائب الوحيد الذي تحالفت معه من خارج حزبها،
كميل شمعون الذي انسحب من التكتل القواتي، وخسرت القوات المعارضة التي قادتها وباتت اقلية كاملة الاوصاف تستجدي نائباً من هنا وآخر من هناك، لا لاكمال الاكثرية في المجلس النيابي، بل لتأمين الثلث المعطل خوفا من توافق القوى السياسية على اسم من دون استشارتها.
بسبب القوات غادر اكثر من نصف “نواب التغيير” كتلتهم وانفرط عقدهم، اذ لم يحتمل هؤلاء اسلوب القيادة الذي تعمل به معراب ولا الخطاب السياسي الحاد الذي لا يتناسب مع الاستراتيجية الخطابية لـ ١٧ تشرين. ضاع جعجع بين ثورتين، اراد اقناع الناس انه تغييري معارض للنظام من دون ان يتخلى عن خطاب ثورة الارز الذي تحالف خلالها مع اعمدة النظام اللبناني. خسر جعجع التغييريين وخسّرهم انفسهم، وخسر الحزب “التقدمي الاشتراكي” الذي انتقد رئيسه وليد جنبلاط الاداء القواتي مرارا قبل ان يجد نفسه مجددا اقرب الى خصومه منه الى معراب.
خلال ذروة المعركة الرئاسية، استطاع رئيس حزب “الكتائب اللبنانية ” النائب سامي الجميّل جذب رئيس “التيار” جبران باسيل الى تقاطع رئاسي. سحبه من عند “حزب الله” في لحظة خلاف تاريخية، ونقله وكتلته الى جانب قوى المعارضة في فرصة تاريخية لقلب الموازين الرئاسية، على اعتبار ان الكتل المسيحية الاكبر قادرة على ايصال رئيس مسيحي او اقله وفي اسوأ الاحوال على احراج باقي القوى وإلزامها بالتفاوض. جذبه سامي الجميل وابعده سمير جعجع. رفض زعيم معراب استقبال باسيل، كمن يعادي زعيم الحيّ الاخر في اخر بلدة في
لبنان. عاداه في لحظة التقاطع الرئاسي وساهم في عدم احتوائه سياسياً واعاده الى حضن “حزب الله”. افشل جعجع، سواء قصد ذلك ام لم يقصد ، محاولة ايصال رئيس لا يختاره الحزب، وافشل استقطاب باسيل وابعاده عن حارة حريك، وافشل مشروع الوحدة المسيحية.
تهاجم القوات باسيل ثم تتبنى خطابه ولا احد يعرف لماذا، فجأة باتت القوات تعارض الحكومة، وتخوض معركة باسيل الذي تتهمه بأنه غير متوازن سياسياً. تعاني القوات من التقاعد المبكر، فهي عمليا عاطلة عن النضال، يأكلها الملل السياسي، وتحاول البحث عن معركة. قررت معراب اتهام الحكومة بالخيانة بسبب ادائها منذ عشرة اشهر اي منذ بدء المعارك في الجنوب. وان كان سؤال القوات عن الخيارات الاخرى التي تقترحها والتي تحفظ السلم الاهلي والوطني لا يصلح لاسباب معروفة، فإن سؤالها عن موقفها من “حزب الله” وسلاحه عندما كانت شريكته في الحكومات المتعاقبة، واجب وضرورة. فالحرب الذي يقاتل اليوم حشد قواه وراكم سلاحه خلال المرحلة التي كانت “القوات” شريكته في السلطة والحكومة وعندما كان بعض مسؤوليها يقصدون مطعما على اطراف الضاحية لتحسين العلاقات “بالاخوان”.. ألم يكن هذا خيانة؟ ثم ماذا فعلت الحكومة؟ خطة للمهجرين؟ وخطة طوارئ؟ ولقاءات ديبلوماسية لمنع الحرب الكبرى؟ وموقف من الابادة التي تحصل في غزة؟ كلها اسئلة لا تقرأ في كتاب القوات، ومن عايش مرحلة حكمها في “الشرقية” يدرك السبب.