كتبت بولا أسطيح في “الشرق الأوسط”:
جاءت الهزتان الأرضيتان اللتان ضربتا لبنان، كما الأردن وسوريا، الثلاثاء والجمعة، بمثابة إضافة مستجدة لأزمات متلاحقة بدأت منذ عام 2019، وأدت إلى أزمات سياسية واقتصادية ومالية ومعيشية وأمنية بشكل غير مسبوق.
ففي وقت كانوا وما زالوا ينتظرون رد «حزب الله» وإيران على عمليتي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية والقيادي في «حزب الله» فؤاد شكر، جاءت هذه الهزة لتفاقم صدمات اللبنانيين التي ارتفعت حدتها أصلاً مع لجوء إسرائيل منذ فترة لترويعهم عبر خرق جدار الصوت. ولجأ قسم كبير منهم للنكات على وسائل التواصل الاجتماعي للتخفيف من مآسيه المتواصلة، فتساءل البعض ما إذا كانت «اقتربت عودة الديناصورات إلى لبنان»! والبعض الآخر استغرب «عدم وصول النيزك ليفتك بلبنان والمنطقة»! فيما تحدث آخرون عن «لعنة تفتك بالبلد».
أزمات متلاحقة
صحيح أن لبنان شهد منذ عام 2005 حتى يومنا هذا على أزمات سياسية وأمنية كبيرة، أبرزها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وحرب تموز 2006، إلا أن ما شهده خلال السنوات الـ5 الماضية كان أكبر من طاقة أي مواطن على احتماله.
الأزمة المالية
بدأت الحقبة المريرة مع انفجار الأزمة المالية والاقتصادية، وانهيار الليرة اللبنانية، واحتجاز المصارف أموال المودعين بالتوازي مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2019. وكان لهذه التطورات وقع كبير جداً على غالبية الناس الذين كانوا يعيشون في نوع من البحبوحة، فانحدرت الطبقة الوسطى لتصبح فقيرة وتحول الفقراء أكثر فقراً وعوزاً.
جائحة «كورونا»
لم يتمكن اللبنانيون من استيعاب ما حصل معهم على الصعيد المادي حتى أتت جائحة «كورونا» التي اجتاحت العالم نهاية عام 2019 ليكون لها وقع أكبر بكثير على اللبنانيين الذي كانوا أصلاً في حالة متقدمة من الصدمة والاكتئاب. وكما هو معلوم توفيت أعداد كبيرة من سكان العالم، فيما سجل لبنان نحو مليون و250 ألف إصابة ونحو 11 ألف حالة وفاة.
انفجار المرفأ
إلا أن كل هذا بقي في مقلب، وانفجار مرفأ بيروت في آب 2020 كان في مقلب آخر، باعتباره قلب حياة الأكثرية الساحقة من الناس رأساً على عقب مع مقتل المئات وجرح الآلاف ودمار قسم كبير من العاصمة وهجرة عشرات الآلاف. ويُجمع كثيرون على أن هذا الانفجار كان له الوقع الأكبر على اللبنانيين وحياتهم مقارنة بباقي الأزمات والكوارث التي عايشوها في الأعوام القليلة الماضية.
شغور… فحرب
ولم يؤد كل ذلك لإعادة القوى السياسية حساباتها، بل واصلت سياسة شد الحبال ما يؤدي لاقتراب لبنان من الذكرى الثانية لشغور سدة رئاسة الجمهورية مع تسلل الفراغ إلى قسم كبير من مؤسسات الدولة، ما يهدد بتفككها. وأتى قرار «حزب الله» بتحويل جبهة لبنان إلى جبهة دعم وإسناد لغزة في الثامن من تشرين الأول 2023 ليزيد طين اللبنانيين بلة، خصوصاً مع تفاقم الخشية أخيراً من توسع الجبهات واشتعال حرب إقليمية كبرى في المنطقة.
خيبة
وتعدُّ الدكتورة في علم النفس في الجامعة اللبنانية في بيروت منى فياض أن أبرز الخيبات التي تعرض لها اللبنانيون في السنوات الماضية كانت «استغلال السلطة انتفاضة 17 أكتوبر 2019 كي تعيد الناس لتمترساتهم الطائفية بعدما كانوا لأول مرة يجتمعون تحت عنوان (الوطن أولاً)، فإذا بمافيا السلطة تستغل الفرصة لتفقير اللبنانيين وسرقة أموالهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه بعد ذلك «أتت (كورونا) لتغير نمط العلاقات وطريقة التواصل وتفاقم العزلة، وصولاً للكرزة على قالب الأزمات والدراما المتمثلة بحرب الاستنزاف القائمة راهناً، والتي لا شك تؤذي إسرائيل لكنها تؤذي اللبنانيين أكثر وتؤدي لتهديم قرى وقيام شريط حدودي غير قابل للسكن وتحمّل لبنان عبئاً اقتصادياً يؤدي للانهيار التام، كما تحمّل اللبنانيين أوضاعاً صعبة وغير محتملة على المستوى النفسي». وتضيف فياض: «يشعر اللبناني كأنه نتيجة كل هذه الضغوط يعيش آخر يوم في حياته لذلك يحاول الهرب من هذا الواقع إلى الملاهي والحفلات، وهذا نوع من المقاومة، كذلك فإن هذه الضغوط تؤدي لتفكك اجتماعي وازدياد العنف والإحباط».
المشكلة بالسياسة
أما البروفسور مارون خاطر، الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة، فيعد أن «كل ما شهده لبنان منذ عام 2019 هو نتيجة تراكمات بالسياسة أدت إلى زعزعة الدولة وتفككها وعدم حضورها لبناء رؤية استراتيجية للنهوض»، لافتاً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «عام 2019 كان نهاية حقبة من التراكمات التي انفجرت بالسياسة أولاً، ومن ثم في الاقتصاد والمال والنقد، وتزامنت مع جائحة (كورونا) وما أدت إليه من تباطؤ للاقتصاد العالمي».
ويضيف خاطر: «قد تبدو أسباب ما حصل في 2019 اقتصادية لكنها بالحقيقة سياسية، فلبنان كان ولا يزال بلد التجاذبات والمطامع والخاصرة الرخوة في الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أن «ما يمنع النهوض راهناً هو غياب الرؤية الاستراتيجية بالسياسة والاقتصاد والنقد وبقاؤنا في دوامة إدارة الأزمات». ويختم خاطر: «عدم تمكن الحكومة من اتخاذ قرار الحرب والسلم يؤكد أنها غير قادرة على اتخاذ أي قرار بالاقتصاد ما يعيدنا للمشكلة الأساس، وحيث الحل أيضاً في السياسة وبوجوب تكتل اللبنانيين حول الدولة».