إنتقال “إسرائيل” إلى أنماط الحرب الأمنية، قد يستجرّ رداً وفق نفس المفهوم، ويمكن أن يحوّل “محور المقاومة” نحو الإنخراط الكامل ضمن أدبيات هذه المعركة. ومن تفسيراته أنه تعبير دقيق بالنسبة إلى العدو عن الإنتهاء من وضعيات الإشتباك والقتال العسكري، واعتراف بفشلٍ في تحقيق الأهداف، وقد يجد العدو فرصةً من خلال هذا الإنتقال إلى تحقيق قفزات تصلح لترميم صورة الردع لديه المهشّمة منذ 7 أكتوبر الماضي.
من هذا المنطلق، جاء اغتيال نائب رئيس المجلس السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري، إلى جانب قادة آخرين من الحركة في شقة تقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، كفعلٍ مدروس ومحسوب من حيث توقيته وطبيعة الهدف، وشكّل ضربةً “غير محسوبة” أقلّه وفق تقدير “الحركة”. ومن وجهة نظر “حزب الله”، شكّلت ضربةً “خارج القواعد” لكنها تبقى مضبوطة تبعاً لحسابات الحزب، وليست في غرض توسيع الجبهة بالنسبة إلى العدو.
ومع تلاشي الموجة، إتّضح أن “الضربة” لا تقاس على مستوى فتح الحرب وإن أسهمت إلى حدٍ ما بإرتفاع السخونة على الجبهة الجنوبية، وهو ما لمس صراحة خلال اليومين الأخيرين. لكن، وفي تقدير معنيين، إن الضربة ستسهم حتماً في تعديل الكثير من “القواعد المعتمدة”، وستشكل تأثيراً بالغاً على المسار السياسي في ما خصّ مسألة الجنوب، وسيكون لها انعكاس على الحركة الفرنسية الداخلية في ما له صلة بترتيب وضع الجنوب، بموازاة الحركة الأميركية، ولن يكون البحث في مسألة وضعية الجبهة الجنوبية اليوم على نفس القدر الذي كان متوفراً بالأمس، ولا بدّ أن ترفع المقاومة من قيمة مطالبها، وصولاً لمبادلة التراجع الميداني ـ إن حصل – بتراجع ميداني مقابل يبادر إليه العدو، على قاعدة “المساواة في الظروف”.
وفقاً لذلك، تُرقّى زيارة المرتقبة للوسيط الأميركي المعني بالملف اللبناني عاموس هوكستين لبيروت إلى رتبة المجهول، وتفصح عن عدم جواز النقاش من جانب الحزب في أي أمر يتصل بظروف المعركة راهناً، فيما تُقدّر أوساط أن الطرح المزمع تقديمه من جانب المبعوث الأميركي كاقتراح مقدمة لوقف إطلاق النار في الجنوب “ليس في وارد المرور حالياً” ما قد يجعله يحيد عنه منتظراً نضوج الظروف، من دون أن يعني ذلك إمكان تأجيل زيارته إلى بيروت “الضرورية للتهدئة” وفق مصادر قريبة من الدوائر الأميركية.
ماذا عن عملية الإغتيال؟
لكن يبقى أن الفعل الأمني الذي أقدمت عليه إسرائيل في الضاحية متعدد الظروف والإحتمالات. صحيح أن الخرق كبير كمّاً ونوعاً وأن التحقيقات الجارية تحاول كشف خيوطه، وأن هناك تعاوناً جارٍ بين أجهزة الدولة الرسمية وأجهزة المقاومة ككل، لكن ذلك لا يعفي احتمالية توفّر مصادر بشرية أسهمت في تقدم خدمات أو مساهمات مهما كانت طبيعتها بهدف إنجاح العملية. كذلك، لا يعفي المستهدفين من تبعات ما حصل وتحمّلهم جزءاً من المسؤولية، كونهم، وعلى ما يتبيّن، تجاهلوا أو تعاملوا ببرودة مع تحذيرات عديدة سابقة بضرورة الإحتراز وعدم المغامرة أو تجاهل المخاطر الأمنية. كذلك، لا يمكن إغفال الأدوار التقنية ـ الإلكترونية كسبب مباشر لما حدث، والتتبّع الأمني الدائم الذي يقوم به العدو للضاحية بشكل مستمر وعلى مدار الساعة، وعمليات الرصد من فوق ومن تحت،وانتشار المسيّرات وطائرات الإستطلاع بشكل دائم وملحوظ، والفوضى غير المنظمة في موضوع انتشار كاميرات المراقبة الخاصة الموصولة على شبكة الإنترنت في أماكن يُفترض أنها تمتاز بطبيعة أمنية.
ما هو ثابت أمنياً في كل ما جرى، طريقة التنفيذ التي تمّت من خلال إطلاق 6 صواريخ ذكية خارقة للتحصينات وتستخدم عادةً في عمليات الإستهداف الدقيقة ويجري التحكّم بها عن بعد باتجاه المبنى المستهدف، ويرجّح عبر مقاتلة حربية، 6 منها انفجرت فيما لم يتمكن آخران من الإنفجار. الأول وجد داخل الغرفة المستهدفة، فيما الثاني عثر عليه في الطبقة السفلية من المبنى بعدما تمكن من اختراقه من جهة السقف كحال البقية. يبقى موضوع طريقة تحديد الأهداف كعنصرٍ أساسي باقٍ قيد التحقيق تتوسطه مجموعة كبيرة من الأسئلة والفرضيات.
لُغز الشقة
تشير معلومات حصل عليها “ليبانون ديبايت”، إلى أن الشقة المستهدفة في المبنى تعود لحركة “حماس”، وهي واحدة من سلسلة مكاتب منتشرة في الأراضي اللبنانية كافةً. منذ ما قبل عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، وردت معطيات إلى حركة “حماس” من جانب جهاز أمن المقاومة تفيد باحتمالية أن تكون الشقة مرصودة، فاعتبرت “نقطة ميتة”. فيما بعد صدر قرار بإخلائها وجمّدت الحركة أي نشاط لها ضمن الشقة.
عادةً لا ينتهي الرصد الأمني بمجرّد إخلاء الهدف، إنما يستمر بوتيرة طبيعية مخافة أن يكون أي فعل مضاد يأتي كنوع من الإشغال الأمني. لهذا كان من المستغرب أن تعاود “حماس” نشاطها ضمن هذا المربع وصولاً لإستضافة اجتماعٍ على هذا القدر منالأهمية. ولا شك أنه وخلال الفترات الماضية، جرى تنبيه قيادات الفصائل الفلسطينية بضرورة أخذ الحيطة خلال تنقلاتهم، وزيادة تدابيرهم الأمنية الشخصية، لا سيّما بعدما رصد تراخٍ من جانب شخصيات معينة.
الخرق الإلكتروني
يقوم جزء من التحقيق الجاري على فرضية حصول خرق إلكتروني للبقعة المحيطة بالمبنى، وذلك من خلال خريطة انتشار الهواتف الخلوية ضمن الدائرة، فضلاً عن كاميرات المراقبة المنتشرة على طول المنطقة، لا سيّما تلك التابعة لمؤسسات تجارية وخاصة. وتعود المصادر للتذكير إلى كون المقاومة طلبت من الجنوبيين في مستهل المعركة، أن يقوموا بفصل الإتصال بالشبكة عن الكاميرات، بعدما تبيّن وجود قدرة لدى العدو على اختراقها من خلال برامج تجسّسية دقيقة، مع إمكانية الولوج إليها وسحب تسجيلات.
المصدر البشري
في ما له صلة بهذه الإحتمالية، وخلافاً لما يجري تداوله، لا موقوفين من بين أفراد كانوا متواجدين في محيط المبنى المُستهدف ساعة حصول الغارة وما تلاها، وإن التحقيق ما زال منكباً على جمع المعطيات التقنية وغير التقنية، إلى جانب مسح المنطقة المستهدفة بشكل كامل بما في ذلك التدقيق بكاميرات المراقبة، ومدى حصول تلاعب بها، أو محو تسجيلات وما إلى ذلك.