كان من المُنتظر خلال الأيام القليلة الماضية أن تُسفر حملة توقيف الصرّافين التي بدأت أواخر الأسبوع الفائت، عن حصول نتائج ملموسة إيجابية في سوق الدّولار، لكنّ هذا الأمر لم يُترجم بعد على صعيد الأسعار. فحالياً، السّوق ما زال ضائعاً، والسببُ هو أنّ عدداً كبيراً من الذين كانوا يتحكّمون به باتوا خارجهُ، وبالتالي لا إمكانية في الوقت الرّاهن لمعرفة المسار الخاص بالأسعار، علماً أن المُضاربات هدأت نوعاً ما، وما يمكنُ قوله في أنّ الاستقرارَ قائمٌ وموجود على صعيد السعر، لكنّ “الغليان” يظهرُ في مكانٍ آخر.. فماذا الذي يحصلُ حالياً؟
خلال دردشةٍ حول موضوع التوقيفات، يقولُ أحد المعنيين المتابعين للملف: “الحمدلله على ما يحصل”.. حتماً، هذه العبارة تؤكّد أنّ الضغط كان كبيراً باتجاهِ رفع الغطاء عن المتورطين في لعبة الدولار، وما يتبين هو أنّ هذا الأمر يسلك طريقه نحو النجاح مرحلياً. إلا أنه مقابلَ ذلك، فإنّ المُعطيات الواردة من السّوق ليست إيجابية بالدرجة الكافية، والأساس هو أنّ الصرافين الشرعيين باتوا يواجهون صعوبةً في الحصول على الدولارات نظراً لقلّة المعروض. وعملياً، فإنّ ما يحصل الآن هو أنّ ثبات سعر الدولار عند مستوى الـ62 ألف ليرة يعود إلى سببين: عدم وجود مضاربة لكن في المقابل هناك نقصٌ في المعروض وتزايدٌ في الطلب من قبل جهات عديدة من بينها مصرف لبنان. إلا أنه حينما تتوفر الدولارات بطريقةٍ ما عندها ستكونُ هناك إمكانيّة لأن ينخفض السّعر مبدئياً، إلا أنّ هذا الأمر لم يحصُل.
في السياق، يقولُ أحد الفاعلين في قطاعٍ حيوي لـ”لبنان24″ إنّ “اتصالاتٍ كثيرة أجريت لتأمين الدولارات من الصرافين الشرعيين والمُسجّلين، لكنّ الجواب كانَ أنه لا إمكانية لذلك حالياً نظراً لعدم توافر المبالغ المطلوبة”. وبذلك، فإنّ ما يتبين هو أنّ الضغط كبير في حين أنّ نقص المعروض هو الذي يُؤجّج هذا الضغط، وما سيزيد من الطين بلّة هو الإضراب الذي أعلنته جمعية مصارف لبنان، أمس الإثنين، وذلك بعد القيود التي فرضها مصرف لبنان على إصدار الشيكات المصرفية. فأمام إقفال المصارف، سيكون الدولار أمام مرحلةٍ ضاغطة جديدة، لكنّ مصادر مصرفية قللت من تأثير الإقفال باعتبار أن استمرار العمليات المصرفية عبر الصرافات الآلية سيساهم في “تقطيع الإضراب” بأقل خسائر ممكنة.
وفي ظلّ ذلك، هناك مخاوف من الصرّافين لرفع السعر كي لا يظهروا كمُضاربين، وبالتالي فإنهم يبادرون إلى بيع الدولار بحسب سعر السوق حتى وإن كانت أرباحهم قليلة أو لا تُذكر حتى. مع ذلك، فإنّ هناك نشاطاً لصرّافين صغار في الخفاء، ومن الممكن أن يكون هؤلاء بمثابة “الأطراف الخفية” للتجار الكبار، وعبرهم يتم “سيسرة السوق” بالموجود.
متى سيضخّ مصرف لبنان الدولارات عبر “صيرفة”؟
قبل أسبوعٍ تقريباً وتحديداً يوم الأربعاء، بادرَ مصرف لبنان إلى رفع سعر دولار “صيرفة” من 38 ألف ليرة إلى 42 ألفاً. حتماً، كان هذا الإجراء هو الأكثر بروزاً من مصرف لبنان الأسبوع الماضي، لكنه لم يقترن بتدخّل في السوق. وأمس الإثنين، أصدر البنك المركزي تعميمهُ الذي يفرض الضوابط على الشيكات المصرفيّة والذي على أساسه تم تحديد إضراب المصارف المذكور. وكما بات متوقعاً، فإنّ مصرف لبنان يسعَى إلى تحضير الأرضيّة للتدخل الفعلي في السوق من خلال إتمام مرحلة ضرب “المضاربجيّة” لأن هؤلاء أفقدوه عنصر المفاجأة، وجعلوا أدواته مكشوفة ومعروفة، وباتوا يحاولون تعمية طريقة التدخّل. إلا أنه ومع ذلك، فإنّ حضور مصرف لبنان مُجدداً في السوق عبر ضخّ الدولارات لن يكون بعيداً، لكن هذا الأمر سيكونُ مرتبطاً بعاملين أساسيين وهما: “صيرفة” و المصارف.
في ما خصّ العامل الأول، أي صيرفة، فإنّ كافة المعطيات المرتبطة بها تشيرُ إلى أن التدخل عبرها بات ضيقاً، والدليل هو أنّ مصرف لبنان “قنّن” ضخّ الدولارات عبرها لاسيما على صعيد الرواتب، فجرى منح موظفي القطاع العام حصراً الحق بالاستفادة من دولارات المنصة لتقاضي رواتبهم، بينما منع موظفو القطاع الخاص من ذلك حتى الآن.
بحسب المصادر، فإنّ “حصر” تأثير “صيرفة” إنّما يدلّ على “ضبابيّة” في إمكانية استمرارها تجاه المواطنين، والخلفية المرتبطة بتقنين ضخّ الدولارات عبرها قد تكون عائدة إلى وجود أزمة سيولة حادّة بالدولارات حالياً، ومن الممكن لتلك الأزمة أن تزداد في حال قرر البنك المركزي العودة إلى السوق مُجدداً والمبادرة بشراء الدولار لصالح “صيرفة”. عندها، سيشهدُ السوق على “خبطةٍ” جديدة، وما يتبين هو أنّ المصرف المركزي سيبادر فعلياً إلى هذا الأمر في وقتٍ قريب جداً، فيما تتحدث مصادر أخرى عن أن الأمر تحقق فعلاً قبل أيام ولكن بوتيرة بطيئة. وحتماً، فإنه لا مهرب من هذا التدخل، وإن حصلَ بطريقةٍ واضحة فإنّ آثار هبوط الدولار ستظهر نسبياً.
على صعيد العامل الثاني، أي المصارف، فإنَّ المسار المرتبط بها يواجه معضلة حالياً، فالإضراب الذي جرى الإعلانُ عنه سيؤثر تماماً على مسار تدخل مصرف لبنان وعلى أسعار الدولار. كذلك، فإن بعض المصارف بات يواجهُ قرارات قضائيّة تُهدد استمراريته مثل “فرنسبنك”، في حين أنّ مؤسسات مصرفية أخرى قد تواجه التعثر الواضح، وآثار ذلك ستظهر تباعاً خلال الفترة المقبلة، إذ من الممكن أن يبادر مصرف لبنان إلى “تصفية” بعض المصارف ودمجها مع أخرى في حال وجد أنها “تعثرت” عن تسديد ديونها خلال الفترة الماضية.
وأمام كل ذلك، فإنَّ وسيلة البنك المركزي للتوجه بـ”صيرفة” عبر الناس تواجه إشكالات كبيرة مُتجدّدة، فبعض المصارف لا تنفّذ قرارات “المركزي” كما هي، في حين أن البعض الآخر امتنع سابقاً عن القيام بعملياتٍ خاصة بالمنصة بعكس ما طلبه مصرف لبنان. هنا، فإنّ ما يبدو هو أن المصارف باتت تجدُ نفسها متحررة ولو جزئياً من “قبضة” مصرف لبنان عبر التعاميم، ولهذا تسير وفق ما تراه مناسباً واستناداً للسيولة الدولارية المتوفرة لديها من البنك المركزي.
في ختام القول، ما يمكن استشرافهُ هو أنّ الظروف الحاليّة للسوق ستبقى مرهونة بما سيفعله مصرف لبنان، وقد تكون الاجتماعات القادمة للمجلس المركزي بمثابة حجر أساس لتحضير سلسلة من التعاميم الجديدة التي ستُحدد أسس تدخل المركزي في السوق ولكن وفق قواعد جديدة.