قطع جبران باسيل جسوره مع الفرقاء كافّة ولم يعد يستطيع أن يبحث عن حليف بديل لحزب الله في المرحلة المقبلة.
اتّصف عهد عمّه الرئاسي، الذي كان عمليّاً عهده هو، بالمعارك الدونكيشوتية المتفرّقة والمتنقّلة، التي كان يمكن وضع حدّ لها لو لم يحفظ له “حزب الله” استمرارية امتلاكه ختم الرئاسة بقوّة وتشدّد. والأصحّ أنّ الحزب اعتبر ذلك العهد الرئاسي عهده، بدليل أنّ أمينه العامّ السيّد حسن نصر الله رأى في الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بموازاة المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة من قبل ثوار 17 تشرين عام 2019، “كلاماً فارغاً”، وتصرّف على أساس أنّ من المستحيلات القبول بهما.
طالب باسيل الحزبَ بأن يتوقّف عن “نفخ عضلات” رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فيما المأخذ عند خصوم الحزب ومعظم حلفائه أنّه بالغ في نفخ عضلات باسيل في كلّ مراحل الحقبة الرئاسية السابقة. وربّما تعود ردّة فعل باسيل الأخيرة على إكمال الحزب نصاب الثلثين لجلسة مجلس الوزراء الإثنين الماضي، التي جاءت بهذه الدرجة العالية من التجرّؤ على نصر الله، ولا سيّما إشارته إلى النكوث بالوعد الصادق، إلى توهُّم رئيس “التيار الوطني الحر” أنّه يخوض بعضلاته معركة تثبيت دوره التي تمثّل ممرّاً إلزاميّاً إلى انتخاب رئيس الجمهورية المقبل، نظراً إلى اعتياده الاستعانة بعضلات الحزب من أجل الوصول إلى الاستئثار بالحكم على مدى 6 سنوات.
جموح باسيل دفعه إلى الاعتقاد بأنّ عضلات الحزب يجب أن تبقى تحت تصرّف زنده من أجل تلبية طموحاته إلى تطويع العهد الرئاسي المقبل. هكذا اعتاد على مدى سنوات، وهكذا يأمل في السنوات المقبلة، وبات يصعب عليه التسليم بأنّ هذه القاعدة قابلة للتعديل إثر خروجه من قصر بعبدا.
انتفاء الحاجة إلى باسيل
إنّ جموحه إلى السلطة لحماية مكتسبات نفعيّة حقّقها خلال السنوات الستّ السابقة، أعمى بصيرته عن واقع جديد باتت فيه حاجة الحزب إليه محدودةً ومحصورةً بمقتضيات ومتطلّبات تحالفه مع جهة مسيحية تعاكس الفرقاء المسيحيين المعارضين لسلاحه ولاستتباع السلطة في البلد للمحور الإيراني، ولا سيّما حزب “القوات اللبنانية”. هذا فضلاً عن أنّ إدارة قيادة الحزب لمعركة رئاسة الجمهورية في الظروف الراهنة ليست متّصلة بالواقع الداخلي اللبناني، وهو عامل متغيّر، على الرغم من تبدّل الظروف عن عام 2016 بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي، بل هي متّصلة بالوضع الإقليمي المتحرّك، وبالتطوّرات المقلقة والمربكة له في الداخل الإيراني، الذي يمثّل عاملاً رئيسياً في حساباته.
سواء التقط باسيل هذين العاملين اللذين يدفعان الحزب إلى التريّث في اتّخاذ موقف حاسم ينهي الفراغ الرئاسي، أم لم يلتقطهما، فقد تصرّف متجاهلاً إيّاهما وذهب بعيداً في تقديم مصلحة تيّاره على ما يشغل بال الحزب، فيما تنامت عند قيادة الأخير وبين كوادره، إضافة إلى جمهوره، حالات من الغضب والانزعاج إزاء إصرار “التيار الحر” على التمايز عن التوجّه الهادف إلى إنجاح خيار رئيس تيار “المردة” لرئاسة الجمهورية.
بعد عودته من باريس منتصف الشهر الماضي التي استخدم منبرها الإعلامي من أجل التصويب على خيار فرنجية متشكّكاً في “قدره وقيمته”، وآخذاً بدربه الحليف الأساسي رئيس البرلمان نبيه برّي، كان باسيل ينتظر موعداً طلبه من نصر الله، لكن لم يلقَ استجابة من الأخير.
ففي باريس فضلاً عن هجومه على فرنجيّة وبرّي، كشف باسيل جانباً من اللقاء السابق مع نصر الله الذي حاول الأخير إقناعه خلاله بخيار رئيس “المردة”، وأعلن أنّه تلقّى عروضاً بالحصول على “ما نريد” في الدولة من إغراءات وتعيينات ووزراء، ملمّحاً إلى أنّه تلقّاها من الأمين العام، من دون أن يسمّيه. أثارت الحملة التي شنّها حفيظة قيادة الحزب، وكان الامتناع عن استقباله الرسالة الأولى التي لم يأخذها في الاعتبار واستمرّ في تشدّده عند بروز الحاجة إلى اجتماع لمجلس الوزراء.
أولويّة طهران.. و”فرصة” باسيل
على الرغم من أنّ اهتمامات “حزب الله” مشدودة إلى أولويّات طهران، غير المكترثة في الوقت الراهن لانتخابات الرئاسة في لبنان، بل منشغلة بمفاعيل وضعها الداخلي وتأثيره على صراعها مع أميركا، تماماً مثلما تنظر واشنطن، ومعها سائر دول العالم، إلى الشرق الأوسط من زاوية ما يحصل في الداخل الإيراني فقط، في إطار الصراع الدولي الراهن، فإنّ إحباط باسيل لِما يعتقده الحزب “فرصةً” له كي يحمي نفسه من تطوّرات إيرانية وإقليمية محتملة قد تربكه، فيأمن خاصرته برئيس حليف مثل فرنجيّة، يشكّل مزيداً من الإرباك له. وهذا ما لم يدركه باسيل في تعاطيه مع خيار حليفه.
يرى الحزب أنّ لديه فرصةً لتمرير انتخابات الرئاسة في لبنان لمصلحته على الرغم من خطورة التطوّرات الإقليمية عليه، والخضّات والتحرّكات في الإقليم، ومنها طبعاً تثبيت أكثر الحكومات تطرّفاً في إسرائيل بعد تفوّق بنيامين نتانياهو. وتكمن هذه الفرصة، كما يمكن أن ينظر إليها الحزب، في أنّ أجواء الاسترخاء النسبي التي أعقبت تغطيته، بل تمريره، لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، تسمح له بالإصرار على ملء الفراغ بالحليف الموثوق فرنجيّة. وما يدور في كواليس حارة حريك من معطيات تعزّز هذه الفرصة أنّ الجانب الفرنسي أبدى ليونة تجاه خيار فرنجية، الذي كان سبق باسيل إلى زيارة باريس ولقاء بعض المسؤولين فيها (وأعقبها إيفاده وزير الثقافة السابق روني عريجي قبل وصول باسيل)، فيما الموقف الأميركي لا يمانع إذا حصل توافق عليه. ومع إدراكه أنّه يبقى تليين موقف المملكة العربية السعودية أساسيّاً لإنجاح هذه الفرصة، كان الحزب ينتظر جهوداً باتجاه الرياض راهن أن تساهم فيها باريس. وإذا لم تنجح المراهنة على تليين موقف الرياض، فباستطاعة محور المقاومة المضيّ في هذا الخيار من دون موافقتها بانضمام باسيل وتكتّله النيابي إليه.
سواء كانت مراهنة الحزب على الجهود الفرنسية صائبة أم لم تكن، فإنّ ما أغضب قيادته أنّ باسيل يساهم بمقاومته لخيار فرنجية في إحباط تلك المراهنة، ويزيد من حراجة موقف قيادته المربكة في إدارة الوضع الانتظاري المجبرة عليه إلى أن تنضج ظروف إنجاح هذه المراهنة أو تفشل.
يحاول باسيل أن يُجيِّر لمصلحته ما يعتبره الحزب فرصةً، متوهّماً امتلاكه القوّة في زنوده، ومستخدماً استمرار حاجة الحليف إليه، فيما الحزب يتوجّس من أن “يستضعفه” الخصوم، فكيف بالحليف؟
للمرّة الأولى خلال موجات الخلافات مع باسيل يعلن “حزب الله” ردّه عليه، وما هذا الإعلان سوى محاولة للتأكيد أنّه يحتفظ بالقدرة على المبادرة. فالرسالة من وراء إنجاح اجتماع مجلس الوزراء الإثنين الماضي حقّقت أهدافها المتعدّدة. وإذا كان صحيحاً الحديث عن ارتباكه في السياق الإقليمي، فإنّ الرسالة أو الحصيلة من خلال حيثيّات مساندته اجتماع مجلس الوزراء مزدوجة:
- رئيس الحكومة السنّيّ غير قادر على جمع الحكومة من دون الحزب وموافقته، بل وجهوده. فميقاتي كان أمام خيارين: إمّا أن يبقى تحت رحمة باسيل أو يكون دوره مرهوناً بإرادة الحزب.
- القيادة المسيحية غير قادرة على التحكّم بمسار الأمور من أجل ملء الفراغ الرئاسي الذي يقضّ مضجعها خوفاً من تلاشي أهميّة الموقع الأول في الدولة، وتوجيه اللكمة لباسيل يكرّس تحكّم حزب الله باللعبة في انتظار ما سيكون، سواء جرى انتخاب رئيس يريده هو أم عُقدت تسوية ما.
ى