كتب د. عمر الفاروق النخال في اساس ميديا:
بين دخان الغارات الإسرائيليّة الذي يغطّي سماء الضاحية والجنوب، وبين البخّور الذي رُفع لاستقبال “الضيف الكبير”، تبدو بيروت وكأنّها تعيش لحظة سورياليّة معلّقة بين الموت والقيامة.
هذه ليست المرّة الأولى التي تحطّ فيها طائرة بابويّة في مطار رفيق الحريري الدوليّ، لكنّ زيارة البابا لاوون الرابع عشر تأتي في توقيت لا يشبه أيّ توقيت آخر ومثقلةً بأسئلة وجوديّة تتجاوز البروتوكول لتدخل في صلب المصير اللبنانيّ.
لبنان اليوم، ليس هو نفسه الذي استقبل البابا يوحنّا بولس الثاني، ولا هو ذاك الذي حيّا بنديكتوس السادس عشر. إنّه بلد يقف عارياً أمام وحشيّة الآلة العسكريّة الإسرائيليّة، وتآكل مؤسّساته الدستوريّة، باحثاً عن طوق نجاة يعيد إليه صفة “الوطن” بدلاً من “الساحة”.
الزّيارات محطّات مفصليّة
تاريخيّاً، لم تكن زيارات البابوات للبنان رحلاتٍ رعويّةً وتفقّديّة وحسب، بل كانت دائماً محطّات مفصليّة ترسم خطوطاً حمراً وتفتح آفاقاً سياسيّة مغلقة. ربّما الذاكرة اللبنانيّة لا تزال نديّة تحتفظ بزيارة البابا يوحنّا بولس الثاني في ربيع عام 1997، التي لم تكن عابرة، بل تحوّلت إلى لحظة تأسيسيّة في الوجدان السياسيّ اللبنانيّ. يومها، وتحت وطأة الوصاية السوريّة الثقيلة، لم يكتفِ البابا بعبارات المجاملة، بل أطلق إرشاده الرسوليّ “رجاء جديد للبنان”، كاسراً حاجز الخوف والصمت.
كانت تلك الزيارة بمنزلة الشرارة الأولى التي التقطها اللبنانيّون، مسيحيّين ومسلمين، ليعيدوا اكتشاف لغة السيادة والاستقلال. الشعارات التي رُفعت حينها والجرأة التي بدت في عيون الشباب كانت التمهيد الحقيقيّ لانتفاضة الاستقلال التي تبلورت لاحقاً في عام 2005.
تبقى العبرة في ما سيحمله البيان الختاميّ لهذه الزيارة، وما سيتركه البابا لاوون من انطباع في الغرف المغلقة قبل الساحات المفتوحة
كان البابا يوحنّا بولس الثاني سياسيّاً بعباءة قدّيس أدرك أنّ سلام لبنان لا يتحقّق إلّا باستعادة قراره الحرّ، وأنّ التعايش لا يستقيم تحت حراب الوصاية.
في المقابل، عندما حطّ البابا بنديكتوس السادس عشر رحاله في بيروت عام 2012، كانت المنطقة تغلي على صفيح “الربيع العربيّ” الساخن، وكانت النيران السوريّة قد بدأت تلفح الخرائط المجاورة. جاءت تلك الزيارة محكومة بهاجس “الحفاظ على المكوّنات” أكثر من “تغيير المعادلات”، فطغى عليها الطابع الروحيّ والدعوة إلى الشرِكة والمحبّة، متأثّرة بضبابيّة المشهد الإقليميّ وتعقيدات الحرب السوريّة التي فرضت نوعاً من الحذر الفاتيكانيّ، خوفاً من أن تُفسّر أيّ خطوة سياسيّة بشكل خاطئ وسط بحر من الدماء المتفجّر.
بنديكتوس لم يصنع حدثاً
كانت زيارة “تثبيت وجود” أكثر منها زيارة “صناعة حدث”، فمرّت بسلام، لكنّها لم تترك ذلك الأثر الصاخب الذي أحدثه سلفه البولنديّ، وبقيت مفاعيلها محصورة في الإطار الكنسيّ والروحيّ العامّ، دون أن تلامس الجرح السياسيّ النازف بعمق.
البابا
تتّجه الأنظار اليوم إلى البابا ليو الرابع عشر وسط مخاوف وآمال متضاربة. تكمن الخشية الحقيقيّة في أن تكون هذه الزيارة نسخة مكرّرة عن زيارة 2012 تكتفي بالدعوات العامّة للسلام ونبذ العنف، وتغرق في العموميّات الروحيّة التي، على أهمّيّتها، لا توقف قصفاً ولا تلجم عدواناً ولا تبني دولة.
الظرف الاستثنائيّ الذي يمرّ به لبنان، الذي تُستباح أرضه بالعمليّات العسكريّة الإسرائيليّة وتُصادر سيادته بقرارات الحرب والسلم المخطوفة، يفرض على الزائر الكبير أن يستعيد روحيّة يوحنّا بولس الثاني لا حذر بنديكتوس.
يكمن التحدّي الدقيق أمام البابا لاوون الرابع عشر في قدرته على التقاط هذه اللحظة التاريخيّة ليقول للعالم إنّ سقوط لبنان هو سقوط لنموذج حضاريّ كامل
ليس المطلوب من البابا لاوون الرابع عشر الصلاة لأجل لبنان وحسب، بل استحضار “دبلوماسيّة الفاتيكان” الصلبة، تلك القوّة الناعمة القادرة على مخاطبة عواصم القرار بلغة المصالح والقيم معاً، لفرض مظلّة حماية دوليّة حقيقيّة تحيّد لبنان عن صراعات المحاور القاتلة.
لا يبحث اللبنانيّون الذين يحتشدون للقاء البابا الجديد عن بركة رسوليّة فقط، بل عن “غطاء سياسيّ” أخلاقيّ يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة السيّدة، فهم يطمحون أيضاً إلى سماع كلام يعيد التذكير بأنّ لبنان “رسالة” وليس صندوق بريد للرسائل المتفجّرة، وبأنّ السلام لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، سواء كان احتلالاً إسرائيليّاً أو هيمنة إقليميّة.
يكمن التحدّي الدقيق أمام البابا لاوون الرابع عشر في قدرته على التقاط هذه اللحظة التاريخيّة ليقول للعالم إنّ سقوط لبنان هو سقوط لنموذج حضاريّ كامل، وإنّ إنقاذه يتطلّب ما هو أكثر من التعاطف، فواقع لبنان يتطلّب موقفاً جريئاً يعيد عقارب الساعة السياسيّة إلى توقيت بيروت، لا توقيت الحروب المفتوحة.
إقرأ أيضاً: زيارة البابا للبنان في ذكرى “نوسترا إيتاتي”
تبقى العبرة في ما سيحمله البيان الختاميّ لهذه الزيارة، وما سيتركه البابا لاوون من انطباع في الغرف المغلقة قبل الساحات المفتوحة. إذا نجح في أن يكون صدىً لصوت اللبنانيّين المقهورين، وأن يعيد لزيارته وهج زيارة البابا يوحنّا بولس الثاني عام 1997 الذي مهّد لتحرير القرار اللبنانيّ، يكون قد وضع حجر الزاوية لسلام حقيقيّ ومستدام.

