كتب إبراهيم الرز في المدن:
تواصل إسرائيل عملياتها الحربية ضد لبنان، وكأن لا علاقة لها بإعلان وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بترتيبات الأمن المعززة تجاه تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الصادر في 27 تشرين الثاني 2024. فالمجزرة التي ارتكبتها في بلدة بنت جبيل الجنوبية، وأسفرت عن استشهاد خمسة مدنيين بينهم ثلاثة أطفال من عائلة واحدة، لا تعدو كونها جزءاً من مشهد دموي متكرر، يضاف إلى الانتهاكات الإسرائيلية اليومية الجوية والبرية والبحرية، فيما الدولة اللبنانية تكتفي بالإدانة اللفظية ومطالبة الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لتوقف اعتداءاتها وتنسحب من النقاط التي احتلتها، من دون أي تحرّك فعلي على المستوى الدولي.

ولأن الجانب اللبناني التزم بالإعلان، ولم يخرقه، فيما إسرائيل لم تلتزم وتواصل اعتداءاتها بشكل شبه يومي عبر الغارات والتحليق المكثف للطيران الحربي والمسيّر فوق الأجواء اللبنانية كاملة، وترتكب المزيد من الجرائم بلا مساءلة، يطرح السؤال عن عدم مبادرة الحكومة اللبنانية إلى رفع شكوى رسمية أمام الأمم المتحدة، على الأقل لحفظ حقها المعنوي وتثبيت موقفها القانوني؟

مراجعة في سجل الشكاوى

ومعروف أن لبنان ليس غريباً عن هذا المسار. فمنذ العام 2006، قدّمت بعثته الدائمة لدى الأمم المتحدة عشرات الشكاوى حول الخروقات المتكررة. في كل مرة، كانت وزارة الخارجية توثّق الانتهاكات وتستخدم تعابير مثل “الاعتداء على السيادة” و”الانتهاك المنهجي للقرار 1701”. لكن نتائج هذه الشكاوى لم تتجاوز التوثيق. مجلس الأمن سجّلها، وأحياناً صدرت بيانات عامة تدعو الطرفين إلى ضبط النفس، لكن لم تُفرض أي إجراءات رادعة على إسرائيل. مع مرور الوقت، تحولت الشكاوى إلى أداة رمزية أكثر من كونها وسيلة ضغط، وأصبح غيابها أو حضورها لا يغيّر في الواقع الميداني.

في هذا السياق، قالت مستشارة وزير الخارجية اللبنانية، دنيز رحمة فخري، في حديث إلى “المدن”، إن الاعتداءات الإسرائيلية تتكرر باستمرار، ولبنان يعاني من تبعاتها. وأوضحت أنّ “الوزير جو رجي يعتبر أن الأجدى من الشكاوى المنفردة عند كل اعتداء، هو جمعها وتوثيقها في ملف متكامل، يُقدَّم بصورة رسمية وفق إجراءات محددة، ما يعطي الشكوى بعداً أكثر جدّية وفعالية”.

وأضافت أنّ “الشكاوى المتفرقة لا تعطي النتيجة المرجوة، بينما حين تُجمع الاعتداءات وتُعرض في إطار شامل، يكون لها وزن أكبر على المستوى الدولي”. وشرحت أنّ “دور وزارة الخارجية في هذه الحالة هو نقل الشكوى وإحالتها من الحكومة إلى المراجع الدولية، حيث تُدرَس وتُناقَش، لتُتخذ بشأنها المواقف المناسبة.”

ولفتت إلى أنّ الأهم يكمن في أن تكون الشكوى ذات جدوى عملية، تحفظ حق لبنان وتُسجَّل في مجلس الأمن، حتى وإن كان معلوماً أنّها قد لا تصل إلى نتائج مباشرة.

أسباب الغياب: مزيج السياسة والبراغماتية

المعادلة واضحة: أي تحرّك لبناني ضد إسرائيل في مجلس الأمن يصطدم مباشرة بالفيتو الأميركي. هذا الفيتو لا يحمي إسرائيل فقط، بل يجهض حتى النقاش الموضوعي حول خروقاتها. من هنا، ترى دوائر القرار في بيروت أنّ الجدوى محدودة، وأن تقديم شكوى جديدة لن يُنتج أكثر من وثيقة إضافية في الأرشيف الأممي.

الداخل اللبناني معقّد. ورفع شكوى ضد إسرائيل قد يُستخدم ضد الحكومة، لأنّ بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن قد يستغل أي شكوى لبنانية لتذكير بيروت بأنّها هي الأخرى لا تطبّق القرار 1701 كاملاً، ولا سيما البند المتعلق بحصر السلاح بيد الدولة. فوجود سلاح حزب الله خارج الشرعية الرسمية يُستخدم كذريعة جاهزة لتقويض أي مسعى لبناني، بل قد ينقلب النقاش ضد لبنان نفسه. وهكذا تصبح الشكوى سيفاً ذا حدين: إدانة لتل أبيب، لكن أيضاً فرصة لإدانة بيروت.

وفي هذا السياق، تقول فخري “أن هذا الربط غير دقيق، ويمكن تقديم الشكوى، كما تؤكد أن الحكومة اللبنانية ملتزمة بالقرارات الدولية، وهو ما أكده رئيسا الجمهورية والحكومة في اكثر من مناسبة”.

هاجس التصعيد

ولا بد من الإشارة إلى أن الشكوى تثير قلقاً من أن تتحول إلى ذريعة لتصعيد عسكري جديد. فإسرائيل قد تستغلها لتبرير عمليات ميدانية أوسع، مع العلم أنها لم توقف عملياتها. لذلك، يميل بعض المسؤولين إلى الاكتفاء بالإدانة الإعلامية والرهان على جهود الوسطاء.

وفي هذا الإطار، قال وزير الصحة اللبناني ركان ناصر الدين في حديث إلى جريدة “المدن”: “إن مسألة تقديم لبنان شكوى إلى مجلس الأمن لم تُطرح بعد داخل مجلس الوزراء، موضحًا أنّ التصعيد الديبلوماسي لم يتوقف، من بيانات الاستنكار، والاتصال بالسفراء، والمطالبات الموجّهة إلى الدول الراعية للاتفاق عبر القنوات الدبلوماسية وفي المحافل الدولية. وقد ذكّر رئيس الجمهورية خلال لقاءاته وكلماته بضرورة وقف هذه الاعتداءات، سواء في القمة العربية أو في نيويورك، الا أن هذا الأمر ليس كافيا، فإسرائيل لا تعنيها القرارات الدولية”.

يضيف ناصر الدين: “بالطبع علينا استثمار كل الخيارات الديبلوماسية امامنا وعلى كافة الصعد وعدم التوقف، وموضوع الشكوى لمجلس الأمن سيطرح في مجلس الوزراء بشكل رسمي.”

معضلة السيادة

من الناحية المبدئية، غياب الشكوى يوجّه رسالة سلبية مفادها أنّ لبنان عاجز عن الدفاع عن سيادته حتى بالوسائل الرمزية. وهو ما يضعف موقفه القانوني ويتيح لإسرائيل تكريس روايتها دولياً. لكن من الناحية الواقعية، لا يمكن تجاهل أنّ أي شكوى قد تفتح الباب على لبنان نفسه، سواء عبر ملف سلاح حزب الله أو عبر مساءلته عن التزاماته بموجب القرار 1701 وإعلان 27 تشرين الثاني. هكذا يجد لبنان نفسه بين معادلتين متناقضتين: الحاجة إلى حفظ حقه السيادي، والخوف من أن تتحول الشكوى إلى سلاح يُستخدم ضده.

الواقعية مقابل المبدئية

الجدل هنا ليس بين حق وباطل فقط، بل بين المبدئية والواقعية. من جهة، الدولة اللبنانية ملزمة دستورياً وأخلاقياً بالدفاع عن مواطنيها وتثبيت الانتهاكات في السجل الدولي، ومن جهة أخرى، هي مضطرة إلى احتساب كل خطوة في ميزان السياسة والديبلوماسية. النتيجة أنّ إسرائيل تواصل خرق القرار 1701 وإعلان 27 تشرين الثاني بلا أي كلفة، فيما لبنان يكتفي بالإدانة اللفظية حفاظاً على توازناته الداخلية والخارجية.

المجزرة في بنت جبيل ليست مجرد جريمة إنسانية مؤلمة، بل مرآة لمأزق الدولة اللبنانية: دولة تسعى لإثبات حضورها، لكنها محكومة بقيود داخلية وخارجية تُكبّل قدرتها على التحرك. الامتناع عن تقديم شكوى قد يكون تكتيكاً لتفادي التصعيد، لكنه في الوقت نفسه يترك فراغاً خطيراً في الساحة الدبلوماسية، ويضعف أوراق لبنان في أي مفاوضة أو مواجهة مستقبلية. في النهاية، قد يكون الصمت خياراً موقتاً، لكنه لا يمكن أن يكون سياسة دائمة لدولة تواجه انتهاكات يومية لسيادتها ودماء مواطنيها.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version