كتب أحمد الراشاني في اساس ميديا:
يعود “الحزب” إلى مربّع “الحوار” بعدما وجد نفسه في مواجهة إجماع لبنانيّ على حصر السلاح بيد الدولة، تماماً كما تلجأ إيران إلى المفاوضات في ملفّها النوويّ كلّما شعرت أنّها “محشورة”، لتشتري الوقت ريثما تتغيّر الظروف. لكنّ ما هو موضوع الحوار بالضبط؟

كان السيّد حسن نصرالله يجلس بنفسه إلى طاولة الحوار برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي في 2006. وكانت رسالته حينذاك هي “بالحذافير” ما يقوله خليفته نعيم قاسم: إنّ نزع السلاح غير مطروح، لا الآن ولا في المستقبل. بل كلّ ما في سخاء حواره أنّه مستعدّ للبحث في صيغة تشرعن السلاح حيث هو، تحت مسمّيات بهلوانيّة فارغة من المضمون مثل “الاستراتيجية الدفاعية” أو “استراتيجية الأمن الوطني”، من دون المسّ باستقلاليّته وعلاقته الخارجة عن الشرعيّة مع دولةٍ أجنبيّةٍ تموّله وتدرّبه وتديره لوجستيّاً وعمليّاتيّاً، ومن دون البحث في علاقة الولاء المعلنة بين هذا السلاح و”الوليّ الفقيه” في إيران.

كان المطلوب في ذلك الحين، كما هو اليوم، جعل شرعيّة سلاح “الحزب” معادِلة لسلاح الجيش في إطار الثلاثية الشهيرة، من دون إمرةٍ لأحدهما على الآخر.

عام 2006 أسمع “الحزب” اللبنانيّين فرمانه وذهب إلى حرب تمّوز، وباتت الجلسات بعد ذلك لزوم ما لا يلزم. وعندما تغيّرت الظروف، أنهى “الحزب” المسرحيّة، وحاصر السراي باعتصام مسلّح، ثمّ اجتاح بيروت في 7 أيّار 2008. وقبل ذلك، كانت آخر جلسات الحوار (السرّي) بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونصرالله قرب السان جورج.

الحوار ليس مختلفاً

لماذا على اللبنانيّين أن يصدّقوا أنّ الحوار في 2025 سيكون مختلفاً؟ ما موضوع الحوار إذا كان السلاح “روح” الحزب، وجزاء من يقترب منه حرباً أهليّة؟ هل هو بشأن آليّة للتواصل بين دولة “الحزب” ودولة لبنان؟ هل هو لإنشاء مجلس أعلى للتنسيق بين الجيشين الشقيقين؟

وسط انسداد الأفق، ثمّة وهمٌ مقابل بأنّ “الحزب” يمكن أن يساوم على سلاحه مقابل حصّةٍ أكبر في النظام
المطلوب من الحوار اليوم هو نفسه ما كان مطلوباً من حوار 2006: تخفيف ضغط الخارج بالقول إنّ هذا الملفّ شأن داخليّ يعالَج بالتوافق. وتلك مزحة سمجة. إذ كيف بالإمكان التوافق بين من يملك السلاح ومن لا يملك إلّا المطالبة بنزعه؟

تقوم نظريّة الحوار لدى “الحزب” على أنّ نزع السلاح لا يتمّ إلّا بالإجماع، بما يعطيه حقّ النقض ضدّ أيّ قرارٍ بالنزع. فيما الصحيح أنّ بقاء السلاح خارج إطار الدولة هو الذي يحتاج إلى إجماع. وعليه، لكلّ المكوّنات حقّ نقض شرعيّة سلاح “الحزب”. ولا معنى لمقولة إنّ المقاومة لا تحتاج إلى إجماعٍ في وجود الاحتلال، لأنّ مؤدّى ذلك أنّ الاحتلال أسقط الدولة وأنهى احتكارها للقوّة.

انتهى الحوار في الطّائف

انتهى الحوار قبل 35 عاماً، حين قرّر اللبنانيون في الطائف أنّ الدولة لا تقوم من دون حصريّة السلاح. ولم يُستثنَ “الحزب” لأنّه “مقاومة”. كان في البلد مقاومات كثيرة، بل كان استثناؤه انقلاباً كامل الأوصاف على “الطائف”، نفّذه نظام الأسد بحكم التحالف مع إيران. ولذلك ما قرّره خطاب القسم والبيان الوزاري عام 2025 ليس إلّا إعادة اعتبار متأخّرة لاتّفاق الطائف، وإزالة لمفاعيل الانقلاب عليه.

لم يكن تأكيد حصريّة السلاح في خطاب القسم والبيان الوزاري سوى إلغاء سياسي لمفاعيل ذلك الانقلاب الذي اتُّخذ قراره في طهران ودمشق، ونفّذه إميل لحّود قائداً للجيش حين رفض نشر الجيش في الجنوب.

الحزب

أيّ حوار لإعادة تأويل “حصريّة السلاح” وإفراغها من مضمونها لا يمكن صرفه إلّا على أنّه انقلاب على خطاب القسم والبيان الوزاري، وانقلاب على اتّفاق وقف إطلاق النار الذي فاوض عليه الرئيس نبيه برّي وأقرّه.

تقوم نظريّة الحوار لدى “الحزب” على أنّ نزع السلاح لا يتمّ إلّا بالإجماع، بما يعطيه حقّ النقض ضدّ أيّ قرارٍ بالنزع
مخرَج مسرحيّ

من الواضح أنّ “الحزب” يغلق كلّ أبواب الحلول، ولا يترك أمام الجميع سوى مخرج مسرحيّ عبر طاولة حوارٍ تلوك النظريّات الممجوجة حول “التكامل” بين الجيش والميليشيا. فهو يقول صراحةً ومواربةً إنّه مستعدّ لشنّ حرب أهليّة لحماية السلاح بالسلاح، ومستعدّ لمواجهة الجيش إذا لم يذعن لتأويلاته. ومع ذلك، لا يجد حرجاً في القول بصريح العبارة إنّ الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية لم يعد مهمّته، بل مهمّة الدولة (!).

وسط انسداد الأفق، ثمّة وهمٌ مقابل بأنّ “الحزب” يمكن أن يساوم على سلاحه مقابل حصّةٍ أكبر في النظام. وقد انساق الفرنسيون إلى هذا الوهم فيما مضى، وربّما يكون المبعوث الأميركي توم بارّاك منساقاً إليه اليوم.

لن يقايض “الحزب” سلاحه بالسلطة، كلّاً أو جزءاً، في سياق أيّة ملهاة حواريّة داخليّة، لأنّ السلاح هو بذاته القضيّة. السلاح هو جوهر وجود حكم الوليّ الفقيه في لبنان، سلطةً وبيئةً وتنظيماً. ولا أحد يملك المساومة عليه سوى الوليّ الفقيه نفسه.

إقرأ أيضاً: برّي التزم سحب السّلاح بمعرض تحذيره من “الحقد”؟

إزاء ذلك، لا بدّ من الانعتاق من ثلاثة أوهام: وهم المقايضة بين السلاح والسلطة، ووهم أنّ “الحزب” يمكن أن يقدّم شيئاً في أيّ حوار داخليّ، ووهم أنّ مهادنة “الحزب” أفضل لبقاء الدولة من مواجهته.

لن تُستعاد الدولة من دون مواجهة سياسيّة مدنيّة، وليكشف “الحزب” ما لديه.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version