كتب نجم الهاشم في نداء وطن:
ارتبط السلاح الفلسطيني في لبنان بحلم الثورة التي اعتبرت أنّها ألهمت كل الثوار في العالم، واستولدت منظمات ثورية تحررية ضد أنظمة، واستقطبت ثوارًا قاتلوا في صفوفها من كل العالم. انتهى هذا الزخم الثوري بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات من لبنان في آب 1982 بعد الإجتياح الإسرائيلي. اليوم ينتهي فصل آخر من تلك الثورة مع بدء تسليم السلاح الفلسطيني إلى الجيش اللبناني بقرار من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس في رام الله. سقطت “جمهورية الفاكهاني” في العقل الفلسطيني بعدما سقطت في أرض الواقع وسقطت معادلة أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير لبنان.
بين العام 1965، تاريخ بدء الكفاح الفلسطيني المسلح وتأسيس أول حركة تحرير فلسطينية “فتح”، وبين تاريخ اليوم تبدل المشهد الفلسطيني في لبنان إلى حد الانقلاب المعاكس. بدل صورة الاستعراضات العسكرية في شوارع بيروت قبل الحرب والمرور أمام منصة يقف عليها ياسر عرفات وقادة الفصائل الفلسطينية الأخرى وأعوانهم من قادة التنظيمات اللبنانية المؤيدة، برزت صور الجيش اللبناني ينتشر على مداخل المخيمات، من برج البراجنة إلى الرشيدية والبص والبرج الشمالي، يتسلم شحنات من الأسلحة الفلسطينية طوعًا ومن دون أي إشكالات. صحيح أن القرار كان يجب أن يبدأ تنفيذه في 16 حزيران الماضي ولكنّه تأخّر ولم يُلغَ وهو مرشح للاستمرار حتى يُستكمَل. ولكن هذا الأمر لا يخلو من عراقيل تتمثّل بتنظيمات لا تزال ترفض القرار الفلسطيني واللبناني، من “حماس” إلى “الجهاد الإسلامي”، وغيرهما من التنظيمات الأصولية التي توالدت تباعًا وتركّز حضورها في مخيم عين الحلوة، وحتى من فصائل منشقّة عن حركة “فتح”.
من خارج المخيمات إلى داخلها
كان من الطبيعي أن تسقط المواقع الفلسطينية التي بقيت خارج المخيمات في معسكرات الناعمة قرب بيروت، وقوسايا وكفرزبد وحَلوَة ودير العشاير في البقاع، بعد سقوط النظام السوري لأنّها كانت مرتبطة به وسارعت إلى التسليم بالأمر الواقع. وليس من الطبيعي أن يبقى أي سلاح فلسطيني خارجًا عن قراري السلطتين اللبنانية والفلسطينية بعد قرار الحكومة بحصرية السلاح. هذا المسار بدأ وسيُكمل بعدما فقد هذا السلاح دوره وهدفه، وهو لم يخدم في أي حال القضية الفلسطينية في حسابات الربح والخسارة. وبالتالي صار بقاؤه حالة عبثية وفوضوية، وبات نزعه اليوم يخدم هذه القضية. فهذا السلاح بات مصدرًا للإرهاب وحاضنًا له ولمجموعات منه، وللصراع الفلسطيني الفلسطيني، وقد تجاوزته الأحداث في لبنان، إلا في ما يتعلق بالسلاح الذي يُستخدم في سبيل دعم موقف “حزب الله” الرافض لتسيلم سلاحه.
عمليًا خرج السلاح الفلسطيني من المعادلة الداخلية منذ العام 1987 بعد انتهاء حرب المخيمات مع “حركة أمل”، ومنذ العام 1991 عندما أجبر الجيش اللبناني المسلحين الفلسطينيين على العودة إلى مخيم عين الحلوة من المناطق التي كانوا انتشروا فيها خارجه.
النصر الذي لم يأتِ
كثيرا ما تباهى أبو عمّار، ياسر عرفات، بأنّه كان يحكم لبنان من الفاكهاني حيث كان مقرّ منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. استطاع منذ العام 1965 أن يجمع حوله أركان الحركة الوطنية في لبنان بقيادة كمال جنبلاط وأن يحظى بغطاء إسلامي. من مخيمات لبنان انطلقات معظم العمليات الفلسطينية على مستوى العالم. وفي هذه المخيمات تأسست معظم التنظيمات الفلسطينية وتحصّنت واشتغلت. وفي هذه المخيمات تدرّبت فصائل ثورية من كل العالم وفصائل لبنانية سارت في طريق الكفاح الفلسطيني. ولكنّها تجربة انتهت بخيبات كثيرة وإن كانت رسمت في أحيان كثيرة أحلامًا واعدة بالنصر الذي لم يأتِ أبدًا.
على مرّ الأعوام، قبل حرب 1975 ومعها وبعدها، كان هناك اعتقاد بأن السلاح الفلسطيني سيحرّر فلسطين. ولكنّه في النتيجة كان الوسيلة التي استخدمت بغير مكانها وأدّت عمليًا وفعليًا إلى الإضرار بالقضية الفلسطينية وإنهاكها وحتى إنهائها. بعد ياسر عرفات لم يستطع أي قائد أو مسؤول فلسطيني إحياء أحلام الثورة التي أعلنها، مع أنّه كان ربّما وراء كل هذه التنظيمات التي توالدت بعد اتجاهه نحو التسوية مع إسرائيل واتفاقات أوسلو. ولا يشذّ عن هذه القاعدة لا حركة “حماس” ولا حركة “الجهاد الإسلامي”. كانت معظم هذه الحركات البديل الممكن عن حركة “فتح” وغيرها كالجبهتين الشعبية والديمقراطية. ولكنها بعد تجربة استمرّت أربعين عامًا أوصلت القضية الفلسطينية إلى كارثة لا سابقة لها ولا مثيل بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023 التي بلغت نتائجها اليوم حدّ إنهاء وضع قطاع غزة الخاص، كما وضع السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية التي لا تزال تصارع من أجل بقاء القضية الفلسطينية حية.
حتى بعد اجتياح 1982 وخروج منظمة التحرير من لبنان لم تكن الهزيمة بهذه القسوة وبهذا الحجم. كان عرفات قادرًا على صناعة المستحيل أحيانًا، وعلى الذهاب نحو خيارات جديدة متمتعًا بقوّة دفع ذاتية وتاريخية وتنظيمية كبيرة. بغيابه، الذي لا تزال تحيط به الألغاز، انقضى زمن الثورة الفلسطينية التي كان صانعها الرئيسي ومحرّكها. بعده غابت القضية الفلسطينية في متاهات كثيرة ودخلت صحراء النسيان.
في غياهب النسيان
أسماء ثورية كثيرة غابت في ذاكرة التاريخ بالموت الطبيعي أو بالاغتيال. وأسماء انتهت منسيّة في السجون. كأنّ القضية في حدّ ذاتها دخلت مرحلة السجن الكبير.
في 5 تشرين الثاني 2022 توفي في سجون بريطانيا نزار هنداوي بعد أن حُكِم عليه بالسجن المؤبّد بتهمة التآمر لتفجير طائرة إسرائيلية عام 1986. هنداوي المولود عام 1949 أدين بزرع قنبلة في حقيبة يد خطيبته الحامل آن ماري مورفي، وذلك على متن طائرة تقوم برحلة جوية من مطار هيثرو في لندن اإلى تل أبيب. ولكن العملية اكتُشفت وألقي القبض عليه واتُّهم النظام السوري في دمشق بالوقوف وراء العملية بالتعاون مع النظام الليبي وأحمد جبريل قائد “الجبهة الشعبية – القيادة العامة”. هذه العملية أدّت إلى فرض عقوبات على سوريا وعلى نظام العقيد معمر القذافي بعد سلسلة عمليات مماثلة. الرجل الذي هزّ العالم في ذلك الوقت انتهى وحيدًا مهملًا لم يسأل أحد عنه، ولم يُعرف من استلم جثته من السجن، ولا كيف وأين دفن. إنه الدليل على الفارق في التطورات بين زمنين. زمن الثورة وزمن الخيبة.
كارلوس لا ملاذ ولا ملجأ
اسم آخر حاول أن يغيِّر وجه العالم وكان لغزًا كبيرًا ومثالًا ثوريًا وانتهى منسيًا. إلييتش راميريز سانشيز، كارلوس، الذي أتى من فنزويلا ليلتحق بالثورة الفلسطينية وبوديع حداد قائد العمليات الخارجية في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بقيادة جورج حبش. لم يجد مكانًا يلجأ إليه منذ العام 1990. حاول أن يختبئ في السودان ولكن المخابرات الفرنسية كانت وراءه، ومن هناك اعتقلته ونقلته إلى باريس حيث حوكم وحُكم عليه بالسجن المؤبّد ولا يزال منسيًّا في السجن. تستحقّ تجربته أن تُقرأ في بداياتها وبما مثّلته من أحلام. وتستحق أيضًا أن تُقرأ في نهاياتها بما تمثّله من انهيار لتلك الأحلام.
كوزو أوكاموتو من يعرف أين هو؟
اسم ثالث يختبئ في لبنان. كوزو أوكاموتو أتى من اليابان ليلتحق بالثورة الفلسطينية وينفّذ عملية في مطار اللد في إسرائيل في 30 أيار 1972 ويبقى حيًّا ويُعتقَل ويُحاكَم في إسرائيل. في 20 أيار 1985 أفرجت عنه إسرائيل في إطار عملية تبادل أسرى مع “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” وعاد إلى لبنان ليظهر بوضوح كيف غيّرته أعوام السجن، وكيف صار خارج الزمن، وكيف ينتظر نهايته وحيدًا على مهل وبلا أمل. ولم يُعرف بعد السبب الذي جعل الولايات المتحدة الأميركية، في حزيران الماضي، تضع جائزة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدّي إلى إعادة توقيفه مع أن السلطات اللبنانية تعرف مكانه وحاكمته مع أعضاء آخرين من “الجيش الأحمر الياباني” عام 1997 ومنحته حق اللجوء السياسي ورحّلت أعضاء آخرين سجنوا معه.
جورج عبدالله وقبر جبريل
اسم رابع يحمل تجربة مماثلة. جورج ابراهيم عبدالله الذي كان له دور في تشكيل الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية وتنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات في فرنسا في بداية الثمانينات حيث اعتقل عام 1984، ولم يطلق إلا في 25 تموز 2025 ليعود إلى لبنان وكأنّه آتٍ من الماضي ليشهد على انتهاء مرحلة انتهت بهزائم كثيرة.
أسماء كثيرة طواها النسيان في السجون والمعتقلات اعتبرت في مراحل نضالها الثوري أنها ستغيّر التاريخ. أسماء كبيرة طواها الاغتيال وصارت مجرد ذكرى في تاريخ القضية الفلسطينية. ليس من قبيل الصدف أن يتمّ تخريب قبر أحمد جبريل في حزيران الماضي في مقابر مخيم اليرموك في سوريا، وقبله تحطيم قبر أبو جهاد، خليل الوزير في تلك المقابر أيضًا، وهو الذي اغتالته إسرائيل عام 1988 في تونس، بينما يتم البحث هناك عن جثة إيلي كوهين الجاسوس الإسرائيلي لإعادتها إلى إسرائيل.
في ظل هذا الانقلاب في المشهد الكبير تصبح مسألة تسليم السلاح الفلسطيني للجيش اللبناني مسألة عادية وطبيعية وروتينية. بعد انتهاء أحلام الثورة يصبح مثل هذا السلاح مشكلة لمن يحمله. سلاح “حزب الله” ليس خارجًا عن هذه المعادلة.