كتب شارل جبور في نداء وطن:
لا حاجة للتأكيد أن الظرف السياسي الراهن، محليًا وإقليميًا، يختلف جذريًا عن مرحلة صدور القرار 1559 وخروج جيش الأسد من لبنان، كما يختلف عن ظروف صدور القرار 1701. جوهر الاختلاف يتجلّى أولًا في إسرائيل التي تمكّنت من “حزب اللّه” ولن توقف استهدافاتها له، ولن تعود إلى قواعد الاشتباك السابقة، ولن تمنحه فرصة إعادة تكوين قوّته. ويتجلّى ثانيًا في سوريا التي أغلقت الحدود بين إيران ولبنان، ما شكّل ضربة قاتلة لإمداداته العسكرية. ويتجلّى ثالثًا في وجود سلطة مصمّمة على نزع السلاح غير الشرعي.

والهدف ممّا تقدّم التأكيد أن التاريخ، هذه المرّة، لن يتكرّر ولن يعيد نفسه، لأن إسرائيل لن تسمح للقوّة المعادية لها، والتي هزمتها، بأن تعيد بناء منظومتها العسكرية، ولأن سوريا لن تسمح لإيران باستخدام أراضيها ممرًا إلى لبنان. وهكذا بات “حزب اللّه” في جزيرة محاصرة عسكريًا، مراقبًا وملاحقًا من الجيش الإسرائيلي، ومقطوع الإمدادات من سوريا، ومجرّدًا من الغطاء الداخلي.

وإذا كان “حزب اللّه” لم يعد، بعد 27 تشرين الثاني 2024، مشكلة إسرائيلية، كون إسرائيل أنهت خطره عليها بصورة نهائية، فإنه تحوّل إلى مشكلة لبنانية صرفة، لأن عدم تسليم سلاحه أو نزعه من قبل الدولة يُبقي لبنان بلا استثمارات ولا مساعدات مالية واقتصادية، في ظلّ ربط هذه المساعدات بإنهاء وضعية الدويلة داخل الدولة.

ومن الواضح أن السلطة التي كانت تتهيّب اتخاذ قرار نزع السلاح غير الشرعي، عادت وحسمت أمرها في 5 آب وأعادت تأكيده يوميًا وترفض التراجع عنه، لكن هناك نوع من انطباع وكأنها ما زالت تتهيّب الانتقال إلى التنفيذ في ظلّ تهديد “الحزب” المكرّر بالحرب، وإصراره على أن تسليم سلاحه لا يتم إلّا بالقوة. بالنسبة إليه، هذه “الخرطوشة الأخيرة”: فإذا خسرها خسر سلاحه وعلّة وجوده ودوره ومشروعه.

وهنا تبرز وجهتا نظر: الأولى، تعتبر أن التهويل هدفه وقف تنفيذ قرار 5 آب، وأن فشله في منع صدور القرار لن يتكرّر مع التنفيذ، لأن دخول القرار حيّز التطبيق يعني نهايته، ما سيدفعه إلى مواجهة عسكرية دفاعًا عن سلاحه. أما الثانية، فترى أن التهديد الذي مارسه قبل صدور القرار منعًا لصدوره يكرِّره اليوم قطعًا للطريق على التنفيذ، ولكنه لن يتمكّن من منع هذا التنفيذ إذا أصرّت الدولة على تطبيق خطتها، ولن يذهب بعيدًا في مواجهة عسكرية لم يعد قادرًا عليها بعدما أصبح هدفًا إسرائيليًا سهلًا، ومحاصرًا سوريًا، ونصف بيئته مهجرًا، فيما تملك السلطة القدرة على عزل مناطقه عن بعضها البعض، والشروع تدريجًا في نزع سلاحه.

وعلى الرغم من أن الفرصة التاريخية اليوم لإنهاء السلاح غير الشرعي لا تشبه الفرص السابقة، إلّا أنه لا خوف من تفويتها، لأن المشروع الممانع في لبنان تلقّى ضربة قاضية. ودور السلاح الذي كان يستجلب الحروب ويهدِّد حياة اللبنانيين ويعطِّل عمل الدولة انتهى، وما تبقّى لا يتجاوز القنابل الصوتية والمحاولات الاستعراضية بلا أثر فعلي. لكن من غير الجائز إطلاقًا أن تفوِّت الدولة هذا الظرف التاريخي لإزالة البؤر الأمنية في البلد، وجعل الجغرافيا اللبنانية كلّها تحت سلطة الدولة حصرًا، حتى ولو كان سيكلّفها ذلك مواجهة عسكرية، لأن الدولة تفقد مبرِّر وجودها بمجرّد التخلّي عن جزء من سيادتها، وانهيارها بدأ أساسًا مع التسليم بسلاح خارجها مع اتفاق القاهرة، ولن تستعيد دورها الفعلي قبل إنهاء السلاح غير الشرعي تطبيقًا للدستور واستكمالًا لما لم ينفّذ سياديًا منذ العام 1991، خصوصًا أن مفتاح الاستقرار والازدهار يكمن في احتكار الدولة السلاح.

وعلى الرغم من أن قرار 5 آب كان بحدّ ذاته محطة تاريخية، إذ فكّ الارتباط بين الدولة و “الحزب”. لكن صدوره وحده لا يكفي، فالمطلوب تنفيذه. والخشية ليست من قدرة “الحزب” على استعادة دوره السابق، إنما من حرمان لبنان من المساعدات من جهة، وتكريس حالة انفصالية على الأرض من جهة أخرى. وإذا كانت الدولة لا تريد أن تبدأ بالخطوات العسكرية، فيمكنها أن تفتتح التنفيذ بخطوات سياسية – قضائية قوامها الآتي:

أوّلًا، دعوة “حزب اللّه” علنًا وصراحة إلى الاستقالة من الحكومة، قبل إقالته، إذا أصرّ على سلاحه غير الشرعي الذي يتناقض مع مشاركته في حكومة تريد تطبيق الدستور والبيان الوزاري.

ثانيًا، إبلاغه بأن إصراره على العمل المسلّح سيدفع الحكومة إلى حظر نشاطه السياسي ومنعه من الترشُّح للانتخابات. إذ لا يمكن الجمع بين العمل السياسي تحت سقف الدستور والمؤسّسات، والترويج لسلاح يقوِّض سلطة الدولة.

ثالثًا، إبلاغه بأن إصراره على العمل المسلّح سيعرِّضه للملاحقة القضائية، لأنه يشكّل تهديدًا للبنانيين، واعتداءً وتعديًا على سيادة الدولة ودورها في بسط سلطتها على جميع الأراضي اللبنانية.

وبالتوازي مع بدء تنفيذ هذه الخطة، سياسيًا أو عسكريًا، يتعيّن على الحكومة أن تنتزع في المقابل انسحاب إسرائيل من النقاط التي تتواجد فيها، وصولًا إلى إعادة إحياء اتفاقية الهدنة، وإطلاق عملية إعادة الإعمار ودعم لبنان ماليًا.

وإذا كانت الحكومة متوجّسة من بدء تنفيذ قرارها عسكريًا، فبإمكانها أن تبدأ التنفيذ سياسيًا، ولكن لا يجوز، بأي شكل من الأشكال، تعليق التنفيذ أو تجميده حرصًا على صورة الدولة وهيبتها. فالمطلوب خطة تصاعدية تبدأ بعزل مناطق نفوذ “الحزب”، مرورًا بإخراجه من الحكومة، إذ لا يجوز أن يستمرّ داخل حكومة يصنِّفها بأنها تخدم المشروع الإسرائيلي، وصولًا إلى استعادة الدولة سلطتها كاملة على أراضيها.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version