شكّل المشهد الروحي الاستثنائي في ساحة الشهداء، المتمثل بقيام الحبر الأعظم البابا ليو الرابع عشر وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز بغرس شجرة زيتون، لحظة وجدانية في ذاكرة لبنان، تجسدت فيها الرموز الروحية والإنسانية معاً. لم تكن تلك الشجرة غرسة في تراب العاصمة فحسب، بل كانت جسراً حيّاً بين عقيدتين التقتا في رحاب بيروت على قيم السلام والعيش الواحد.
وقد عبّر غرس شجرة الزيتون عن تلك الجذور العميقة والتاريخية بين الفاتيكان وأمراء الدروز في لبنان، وعن تلك الشراكة التي هي قدرٌ لا يُلغى، بل تنمو كما تنمو أغصان الزيتون، لتشكل لوحة تعبّر عن انفتاح متبادل وعن تفاعل بين رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، رمز السلام وصوت الضمير، وبين شيخ عقل الموحدين الدروز، رمز الحكمة والتوحيد.
إذاً، ليست العلاقة مستجدة بين الفاتيكان ودروز لبنان، بل تعود إلى قرون مضت. وعلمت “القدس العربي” أن شيخ العقل الدكتور سامي أبي المنى، في اللقاء المغلق الذي جمع رؤساء الطوائف الإسلامية بالبابا ليو الرابع عشر في مقر السفارة البابوية في حريصا، توجه إليه بالقول: “عندما كان الموحدون الدروز أمراء جبل لبنان وقادته، تتالت الرسائل البابوية لتوصيتهم بإخوانهم المسيحيين، وقد حفظوا الأمانة، وأرسوا ركائز العيش المشترك في ما بينهم”، وأضاف: “إن الشراكة الدرزية المسيحية جزءٌ من الشراكة الوطنية، وتكتمل بمشاركة جميع العائلات الروحية”.
وتحدث عن مصالحة الجبل التي جمعت البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط عام 2001، وقال: “هذه المصالحة بين المسيحيين والموحدين الدروز أساسية، ويجب تثبيتها وصيانتها وتثميرها. قلتم: لا توجد مصالحة دائمة بدون هدف مشترك، ونحن نعمل لتحقيق هدف واحد مشترك. قلتم: إن المصالحة تسمح لنا بأن نعيش معاً، وتعلمنا أيضاً أن نعمل معاً من أجل مستقبل مشترك، ونحن نحاول ترجمة هذه المصالحة إلى شراكة روحية وطنية، فإلى شراكة اقتصادية تنموية. وقد رعينا أخيراً توقيع اتفاقية تعاون مع الرهبانية اللبنانية المارونية لاستثمار الأراضي الوقفية لكلينا، نأمل منكم رعاية هذه الشراكة لتتمكن من إقامة المشاريع المتعلقة بالأمن الغذائي والبيئي”، موضحاً: “همُّنا الأول مساعدة المحتاجين والمساكين وتثبيت أبنائنا في أرضهم ووطنهم، والشراكة وخدمة المجتمع هما السبيل الوحيد لتحصين وجودنا وبناء وطننا. معاً نحن أقوى، ويمكننا أن نصنع السلام، وأن نذهب سوياً إلى حيث تدعو الحاجة”.
وقد جاء كلام شيخ العقل عن المصالحة بين الدروز والموارنة ليشكل مثالاً على قدرة اللبنانيين على تجاوز الأزمات وإعادة بناء الثقة في بلد تتصاعد فيه الانقسامات. فلطالما لعب الموارنة والدروز دوراً محورياً في تاريخ لبنان السياسي، بدءاً من الإمارة المعنية والشهابية، مروراً بالمرحلة العثمانية، وصولاً إلى دولة الاستقلال. وكانت العلاقة الدرزية المارونية في معظم مراحلها علاقة تعاون وجوار يميزها الدفاع عن خصوصية لبنان والتمسك بالأرض وبالهوية.
من هنا، فإن الفاتيكان، الذي يرى في لبنان نموذجاً فريداً للتعددية، ينظر إلى الدروز كطائفة ضرورية لحماية الكيان. وسبق أن شهد الكرسي الرسولي زيارات لقيادات درزية ولشخصيات لعبت دوراً في الحوار الإسلامي المسيحي. وقد شجع الفاتيكان أخيراً على الشراكة الروحية والاقتصادية القائمة في الجبل بين مشيخة العقل والرهبانية اللبنانية المارونية، من خلال حضور السفير البابوي باولو بورجيا إلى دار الطائفة في فردان، لما لها من أثر إيجابي في تحقيق السلام المنشود.
ومن المداولات التي شهدها الحوار في مقر السفارة البابوية، قول شيخ العقل للبابا: “النسيج اللبناني قائم على التنوع في الوحدة، والتنوع غنى ورحمة”، موضحاً “أن الموحِّدين الدروز أقلية تُقاس بدورها وتاريخها وتضحياتها واعتدالها، والنموذج اللبناني الإسلامي المسيحي المميز يجب أن يبقى أقوى من التجاذبات السياسية”، مؤكداً أن “المسلمين بحاجة ماسة، بعضهم إلى بعض، وهم بحاجة إلى المسيحيين، والعكس صحيح”.
وأشار إلى “أن العيش الواحد والعمل المشترك أقوى من أي سلاح، وهو ما يحتاجه لبنان، وعلينا أن نتمسك به، وتجربتنا في العيش المشترك غنية، وقصصها الطيبة تطغى على مشاهد النزاع المرحلية، ونحن نحمل رسالة إيمانية وأخلاقية وإنسانية واحدة في مواجهة التحديات المتصاعدة”.
وختم شيخ العقل: “زيارتكم بارقة أمل للبنان في ظل التهديدات العدوانية والأزمات المتتالية في المنطقة”، مناشداً البابا “الضغط على دول القرار لتجنيب لبنان حروباً جديدة مدمِّرة”، قائلاً: “أنتم قادرون، بما لكم من تأثير وحضور، وما يحصل في غزة وفي سوريا من مآسٍ ونزاعات يحمّلنا مسؤولية أكبر في الحفاظ على وطننا”.
وبحسب المعلومات، فإن اللقاء، الذي استمر لمدة ساعة، أصغى خلاله البابا لشيخ العقل بكل حرص، وبدا متفاعلاً مع النقاش، ومؤيداً لما تم طرحه، وبارك الشراكة في الجبل.
وكما غرس البابا وشيخ العقل معاً شجرة زيتون تعبيراً عن الارتباط بالجذور والزرع الصالح، فقد حرص شيخ العقل في السفارة البابوية على تقديم هدية تذكارية للبابا، هي عبارة عن أبيات من قصيدة شعرية قيلت في تكريم النائب البطريركي العام المطران رولان أبو جودة بعنوان “صلاتنا الحب”، وقد كتبت الأبيات بماء الذهب على جلد غزال نادر، من تصميم فريق عمل شركة B5، وحملت الهدية شعار طائفة الموحدين الدروز المخمس الألوان، ووضعت في صندوق خشبي مغلف بالجلد أيضاً.
