كتب نجم الهاشم في نداء الوطن:

لا يفوِّت أمين عام “حزب الله” الشيخ نعيم قاسم مناسبة من دون الحديث عن استعادة حزبه عافيته وإعادة بناء هيكليته التنظيمية ورشاقته الأمنية والعسكرية. وعلى رغم الهزيمة التي تعرّض لها واضطراره إلى الموافقة على اتفاق وقف النار والاستسلام في 27 تشرين الثاني 2024، يصرّ على القول إنه انتصر لأن الضربة الإسرائيلية لم تقضِ عليه نهائيًا. في ظلّ التهديد الإسرائيلي المستمرّ معطوفًا على تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هل يتمّ التحضير لضربة ثانية قاضية على “الحزب” على قاعدة أن الاجتياح الكامل للبنان هو الحلّ؟

يعي “حزب الله” ومن تبقى من قادته خطورة حصول مثل هذا الاجتياح الإسرائيلي، ولكنهم على رغم ذلك يناورون على خلفية اعتبارهم أن مثل هذا القرار دونه عقبات وقد لا يحصل. ولكن في الواقع يستمرّ “الحزب” في سلوك النهج نفسه الذي سلكه منذ بدأت حرب المساندة التي أعلنها أمينه العام السيد حسن نصرالله بعد يوم واحد على عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة “حماس” في قطاع غزة في 7 تشرين الأول 2023. ومنذ ذلك التاريخ بات مصير “الحزب” مرتبطًا بمصير “حماس”. حاول نصرالله البقاء منتظرًا على ضفة الحرب من خلال الرهان على أن عدم الدخول في حرب واسعة دعمًا لـ “حماس” يجنّبه المواجهة الكبرى في معركة لم يقرّر هو متى تبدأ. ولكن حساباته كانت خاطئة وبقي التوقيت بيد إسرائيل. بقيت الحرب مستمرّة في غزة وبقيت العمليات مستمرّة ضد “حزب الله” في لبنان. وعندما أتت الساعة، أعلن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الحرب على “الحزب” ودمّره وقضى على معظم قياداته.

تسليم السلاح مع وقف النار

اتفاق وقف النار لم يكن مجرّد اتفاق لوقف العمليات العسكرية والعودة إلى قواعد الاشتباك السابقة. لا يمكن أن يكتفي “حزب الله” بالقول إنّه ملتزم بهذا الإتفاق لأنه لم يطلق منذ التوصل إليه رصاصة واحدة ضد إسرائيل. فالاتفاق ينصّ صراحة على “وقف النار وسعي لبنان وإسرائيل إلى إنهاء مستدام للتصعيد الحالي للأعمال العدائية عبر الخط الأزرق، واستعدادهما لاتخاذ خطوات لتعزيز الظروف المؤدية إلى حلّ دائم وشامل. تعكس هذه التفاهمات الخطوات التي يلتزم بها كل من إسرائيل ولبنان من أجل التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، مع الإقرار بأن القرار 1701 يدعو أيضًا إلى التنفيذ الكامل للقرارات السابقة لمجلس الأمن، بما في ذلك “نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان”، بحيث تكون القوات الوحيدة المسموح لها بحمل السلاح في لبنان هي القوات المسلحة اللبنانية (LAF) وقوى الأمن الداخلي ومديرية الأمن العام والمديرية العامة لأمن الدولة والجمارك اللبنانية والشرطة البلدية (ويشار إليها في ما بعد بـ “القوات العسكرية والأمنية الرسمية للبنان)”.

المسألة واضحة. بدل أن يذهب “حزب الله” في اتجاه التأكيد على نزع سلاحه وتسليمه للدولة اللبنانية، راح في اتجاه التهديد بحرب كربلائية إذا حاولت الدولة أن تأخذ منه سلاحه لأنّها تكون تأخذ روحه، كما قال قاسم. وهذا الموقف يعني أنّ “الحزب” يرفض تطبيق الاتفاق الذي وافق عليه، ويريد من الدولة أن تحول دون تطبيقه وأن تشكّل درعًا لحمايته. يعني بدل أن يتنازل للدولة يريد أن تتنازل الدولة له. ولكن ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل في المقابل ومن ورائها واشنطن؟

محاكاة تجربة تمرّد عون

“الحزب” في اعتماد هذا الموقف يفضل أن ينهزم أمام إسرائيل على أن يتنازل أمام الدولة. لعلّه في هذا الموقف يتشابه مع موقف رئيس الحكومة العسكرية عام 1990 العماد ميشال عون الذي فضل أن يخسر أمام رئيس النظام السوري حافظ الأسد على أن يتنازل أمام قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع. عون اعتبر وقتها أنّ النظام السوري يدعمه في حربه ضد “القوات اللبنانية”، بعدما حاربه في حرب التحرير، وأنّ هذا النظام لا يمكن أن يقضي عليه لأنّه لا يريد أن تربح “القوات” على حساب هزيمته. وفي الوقت نفسه كان النظام السوري يمسك برقبة السلطة اللبنانية وعهد الرئيس الياس الهراوي ومجلس الوزراء والنواب، ويُخضِع لإرادته قيادة الجيش وكل الأجهزة الأمنية والقضائية والإدارات العامة، وبالتالي منَع سلطة الهراوي من التصدّي للعماد عون واحتفظ لنفسه بالتوقيت المناسب للتدخل واضعًا سقفًا لهذا التدخل: القضاء على عون ومحاربة جعجع وعدم تمكينه من الاستفادة من هزيمته. على هذا الأساس نفذ عملية 13 تشرين الأول 1990 التي أنهت سلطة عون ومكّنته، للمرة الأولى منذ الاستقلال، من احتلال القصر الجمهوري في بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة التي شكّلت على الدوام هدفًا أساسيًا لذلك النظام. “الحزب” أيضا هذه المرة لا يريد أن تصب هزيمته في مصلحة جعجع و”القوات”.

13 تشرين إسرائيلية؟

هل يريد “حزب الله” “13 تشرين” جديدة تخرجه نهائيًا من المعادلة؟ وهل يشبه تصرّف السلطة اليوم عجز سلطة الهراوي عام 1989؟ وهل تريد إسرائيل أن تتصرّف كما تصرف النظام السوري وتقضي على “الحزب” عسكريًا وتدخل إلى معاقله في الضاحية والجنوب والبقاع وتنهي أي إمكانية لعودته إلى الحياة؟

من هنا تأتي خطورة ان تنفذ إسرائيل العملية ضد “حزب الله” لأنها ستكون عملية ضد لبنان كلّه. ثمن هذه العملية يكون أكبر على لبنان. كما فرض النظام السوري بعد 13 تشرين وصايته على لبنان ستفعل إسرائيل الأمر نفسه في حال اجتاحت لبنان. بحيث يمكن أن تفرض عليه اتفاق استسلام جديد لا يوقعه “حزب الله” بل توقعه السلطة اللبنانية من رئيس الجمهورية نزولًا حتى الحكومة وانتهاء بمجلس النواب. إسرائيل من خلال عملية كبيرة من هذا النوع تقضي أيضًا على كل مقدّرات “الحزب” وتُشتت من يبقى من قياداته وتمنع أي عملية استنهاض لأي تنظيم معارض لها أيا يكن في المستقبل، وتُخضِع السلطة اللبنانية وتضمّ لبنان إلى قائمة الدول العربية والإسلامية التي ستنضمّ إلى اتفاقات أبراهام وإلى السلام معها، وتبني من حولها حزامًا أمنيًا يمتدّ من لبنان إلى سوريا والأردن ومصر، وتنهي دول الطوق العسكري وتحوِّلَه إلى طوق الياسمين.

القرار اتخذ ولكن متى التنفيذ؟

لا يمكن أن تنتظر السلطة الحالية في لبنان أن تأتي إسرائيل لتقضي على ما تبقى من “الحزب” لأنها في حال حصول مثل هذا الاجتياح الكبير تفقد أيضًا مبرّرات وجودها والأهداف التي وصلت إلى الحكم من أجلها، وعبّر عنها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في خطاب القسم، وتبنّتها الحكومة في بيانها الوزاري، واستمرّ رئيسها نوّاف سلام في التأكيد عليها في كل إطلالاته على قاعدة أنّ القرار اتخذ ولا عودة عنه ولكن ما فات هذه السلطة كان وضع هذا القرار موضع التنفيذ وهو ما لم تفعله ولا يبدو أنها تريد أن تفعله، لأنها، كما يشيّع البعض، لا تريد أن تدخل في مواجهة عسكرية مع “الحزب” وتفضل أن تأتيه الضربة من إسرائيل. هذا الاحتمال بحدّ ذاته خطيئة سياسية وأمنية واستراتيجية. نتائجه ستكون أسوأ من نتائج 13 تشرين.

لا يكفي أن تعتبر السلطة أن قرارات مجلس الوزراء في 5 و7 آب الماضي حول حصرية السلاح تكفي لمنع نقل هذا السلاح وتعطيل استخدامه حتى تقول إنها قامت بالواجب. ولا يكفي الإعلان المتكرّر عن أنّ الجيش صادر معظم مخازن “حزب الله” جنوب الليطاني ويقوم بعمل جبّار. لا شكّ في أنّ الجيش حقق انتشارًا واسعًا هناك ونقل محتويات عدد من مخازن “الحزب” وفجّر ما صادره من قذائف. ولكن هل هذا هو المطلوب؟ وهل هو كافٍ؟ وإلّا لماذا يُقال إن لجنة الميكانيزم التي تراقب تطبيق اتفاق 27 تشرين اعتبرت أنّ الجيش مقصِّر في هذا المجال وأن ما قام به غير كافٍ؟ ولماذا ركّز السفير توم برّاك موفد الرئيس ترامب إلى تركيا وسوريا ولبنان على أن المطلوب من السلطة أفعال لا أقوال؟هناك من يعتبر أن الجيش صادر ما أراد “الحزب” أن يتخلّى عنه من مخازن وأسلحة لأنها انكشفت ولم تعد لها قيمة عسكرية، وأن الجيش صادر ما تبقى من أسلحة في مخازن قصفتها إسرائيل ولم تعد صالحة أصلًا، وأن ما لم يتم اكتشافه وبقي سليمًا لم يعلن عنه “الحزب” ولم يسلِّمه ولم تسعَ الدولة إلى البحث عنه.

ربّما تجنب الوصول إلى استحقاق تهديد إسرائيلي أميركي مماثل لتهديد “حماس” يبدأ من خلال البحث عن أسلحة “الحزب” ومخازنه ومصادرتها. وإلا كيف ستتصرّف السلطة وماذا سيفعل “الحزب” إذا حدّد ترامب مثلًا الساعة السادسة من مساء أحد ما موعدًا لتسليم سلاح “الحزب” وإلّا سيكون هناك موعد مع الجحيم؟

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version