كتب مروان حرب في المدن :
في لبنان، يُولد العدو من ملامح وجه تُشبهك حدّ الخوف. يُصنَع من اسمٍ على البطاقة، من شارع الطفولة، من إشارة عابرة في حيّ متوتر. في بلد المرايا المكسورة التي يخاف كلُّ من فيها أن يرى صورته في عين الآخر، اللبناني لا يُقاتل الغريب، بل يعيد تعريف القريب كدخيل يجب الحذر منه. نخشى الآخر لأنه يشبهنا أكثر من اللازم. الآخر هو أنت لو ولدت في حيّ مختلف. الآخر هو ظلّك إذا أدار لك التاريخ ظهره. الآخر هو سؤالٌ لم يُطرح بعد، لذلك يُخشى، ويُقمع، ويُعاد تشكيله كتهديد. هو من يُربك سرديتك، ويهدد طمأنينتك الثقافية، هو الذي يبكي على شهداء لم تسمع بهم، ويحتفل بعيدٍ لا تراه.
وطن لم يعترف بصورته بعد
الآخر هو هذا القريب المألوف الذي ترفضه ذاكرتك. رفضٌ تربّيت عليه في كتب المدرسة، وتشرّبته من شاشات القنوات التلفزيونية، وسمعته يُهمَس في منابر الخطابة أو جلسات العائلة. هو زميلك في العمل، حارس المبنى، البائع في السوق، لكنه يتحوّل في لحظة سياسية إلى تهديد. لا يحتاج العداء في لبنان إلى منطق، بل إلى إيقاع. وحين يتغيّر الإيقاع، تتبدّل الأدوار، ويُعاد إنتاج العدو بالوجوه نفسها التي كنتَ تطمئن إليها. وما أن تندلع أزمة، حتى تستنفر كل مجموعة سرديتها، وتنقضّ على “الآخر”.
في خريطة لبنان السياسية، لا توجد حدود مرسومة فقط على الأرض، بل داخل العقل: حدود تربوية، خطابية، رمزية. إنها سرديات لا تبحث عن التفاهم، بل عن التفوق؛ لا عن المصالحة، بل عن النفي. كما لو أن الاعتراف بالآخر إهانة، أو اعتذار مكبوت. تُربّى الأجيال لا لتفهم من هو الآخر، بل لتعرف “متى” يتحوّل إلى خطر. تُفرض الهوية كإرثٍ قاتل، لا كمجال حر للاختبار والمساءلة. كل مجموعة أكانت دينية، أو طائفية، أو حزبية، أو مناطقية، أو عشائرية تسعى لاحتكار الأنا، فلا تترك للآخر سوى صورة الوحش. تُلقّنك منذ الصغر ألا تثق بالغريب، وألا تحب بحرية، وألا تحلم خارج الهوية وألا تُصدّق أن في البلاد مساحة تتسع لروايات مختلفة عن الانهيار والحب والنجاة والمستقبل.
عقل لا يتّسع لسؤال
من مقاعد الدراسة إلى شاشات الهواتف، يتعزّز خطاب النفي والانغلاق، حيث تتواطأ المنظومات التربوية والإعلامية والمالية على إنتاج تصوّرات مشوّهة عن “الآخر”، بوصفه تهديدًا دائمًا لحدود الجماعة. في هذا السياق، لا يُعاد رسم الهوية من خلال الحوار، بل عبر الخوف والتحصّن في مواقع الخصومة. من يتفحّص ما يُقدَّم للبناني يوميًا من محتوى إعلامي ورقمي، يُدرك سريعًا أن الغاية ليست تنمية رأي عام عقلاني ومنفتح، بل تعبئة الجماهير ضمن انتماءات ضيقة، أقرب إلى التجييش. لم تعد المنصات الرقمية فضاءات للنقاش وتبادل الرؤى، بل تحوّلت إلى خنادق ناعمة تُعيد إنتاج الانقسام. لا تنقل الخبر، بل تعيد تشكيله من زاوية طائفية محددة، حيث تُصبح “الجهة” أهم من الحقيقة.
كل مادة تُبثّ هي مساهمة في إعادة تعريف “الآخر”، كل منشور يعيد رسم خرائط الخوف، وكل مناظرة تُغذّي غريزة النجاة من “الخطر القريب”. منصات التبادل لا ترحّب بالأسئلة، بل تُنتج أجوبة جاهزة، يقينية، مشبعة بالريبة. توزّع الخوف حسب الطلب، وتُعيد صياغة صورة “العدو الداخلي” كلما دعت الحاجة. إن أخطر ما يفعله هذا النمط من التضليل لا يكمن فقط في تشويه الوقائع، بل في ترسيخ سردية يُبنى عليها القرار السياسي والعسكري والشعبي.
الآخر كشرّ لا بد منه
الآخر لا يُنظر إليه كمساهم جدي في وطن ممكن، بل كمنافس على الهوية، ومهدد للسردية، ومشتبه أبدي في ولائه. الآخر هو ذاك الذي يختلف عنك في الذاكرة، وفي تفسير الحرب، وفي شكل البكاء على الشهداء. من هنا نفهم لماذا تفشل محاولات “العيش المشترك” في كل مرة: لأنها لا تُبنى على اعتراف، بل على هدنة مؤقتة، لا تهدف لفهم الآخر، بل إلى تحمّله ريثما تنضج المرحلة.
الآخر ليس من يخالفك الدين أو الحزب أو الطائفة، بل من يضعك أمام حدود سرديتك وهشاشة قناعاتك. الآخر هو من يُرغمك على إعادة النظر في مسلماتك، ويمنعك من السقوط في غواية التصنيف. ليس المطلوب طمس الفروقات، بل الاعتراف بها من دون أن تُختزل إلى خنادق. ليس المطلوب كتابة رواية واحدة، بل الاعتراف بأن الحقيقة مركّبة، متشابكة، متعدّدة الرواة. اللبناني يحتاج إلى خيال سياسي جديد، يدفعه على طرح السؤال لا رفع الشعار، على الرؤية لا الاصطفاف، قادر على التعامل مع الآخر لا كمؤامرة بل كضرورة وجودية. فالدولة لا تُبنى من جماعات تتبادل الخوف، بل من أفراد يتبادلون الشك والاعتراف. قد لا يكون الاستقرار مجرد وقف لإطلاق النار، بل مصالحة حقيقية مع صورة الآخر… حين نراه فينا، لا نقيضنا.